وكل هذه الأجسام متحركة، فمن حركة العنصر الأول - الأثير - تنشأ الحرارة، ومن حركة العنصر الثاني - الهواء - ينشأ الضوء واللون. هذا ولما كانت الأجسام تتحرك في مكان كله مليء بالمادة، فإنه لا يكاد ينتقل جسم من موضعه حتى تندفع الأجسام المحيطة به لكي تملأ مكانه، ومن هذه الحركة السريعة تنشأ حركة دائرية في الأجسام المندفعة كما يحدث في دوامة الماء، وبهذا يعلل دوران الكواكب حول الشمس.
ولا يقصر ديكارت هذه الآلية على الأجسام المادية وحدها، بل إنه يطبقها كذلك على الكائنات العضوية، إذ يعتقد أنها مجرد آلات تعمل عملا آليا محضا، فإذا وقف عملها كان ما نسميه بالموت. ويرى «ديكارت» أن أصل الحياة الحقيقي هو الدم، فمن دورته تنشأ الحياة، وهو لا يوافق «هارفي»
Harvey
في أن سبب الدورة الدموية انقباض جدران القلب؛ لأن هذا كذلك يحتاج إلى تعليل ، ولكنه يرجح أن يكون سببها ارتفاع حرارة القلب التي تدفع الدم إلى الرئتين في هيئة بخار، وهناك يبرد الدم، ويتحول ثانية إلى سائل، ثم يعود إلى القلب؛ لكي ينتشر منه في الشرايين، ومنها ينتقل إلى العروق بواسطة القنوات الشعرية
Cabillary canals ، ثم يعود أخيرا إلى القلب. هذا وإن الدم الذاهب إلى المخ يصل إليه دافئا، فيعمل المخ على تبريده من ناحية، ويكون له بمثابة المرشح من ناحية أخرى، فينقيه مما فيه من ذرات العنصر الثالث - أي عنصر التراب - ويحولها إلى قوة حيوانية
Animal sdirits ، ويكون مستودع هذه الذرات التي منها يتولد الجانب الحيواني من الكائن العضوي هي الأعصاب، فإذا ما تأثرت أطراف الأعصاب بأثر خارجي، فإنها بفعل هذه القوة الكامنة فيها تهتز هزة موجية كما يحدث لقطعة من الخيط، فينتقل الأثر بتأثير هذه الهزة إلى مركز في المخ معد لاستقبال الآثار الآتية من العالم الخارجي، ومن ذلك المركز نفسه تصدر القوة التي تنقل الأوامر إلى الأعصاب، فتتحرك هذه تبعا لما يملى عليها، ثم تحرك العضلات حركة تتفق مع الأمر الصادر لها من المخ جوابا للأثر الذي حملته إليه من الخارج. فإذا رأى الحمل الوديع مثلا ذئبا ضاريا سارع مركز المخ بإصدار أوامره إلى الأعصاب، فتهم هذه بتحريك عضلات أرجله، فيجري الحمل فرارا من الموت، وهكذا قل في كل عمل يقوم به الحيوان، فإنها جميعا آلية محضة يحس بالمؤثر فيتأثر له ويجيب عنه، كما يخرج صوت الآلة الموسيقية إذا نقرت عليها بإصبعك، وقد شاع بين أتباع «ديكارت» عادة غريبة، هي أن يعذبوا الحيوان تعذيبا قاسيا؛ لكي يبرهنوا على أنهم يعتقدون حقا أنه آلة صماء لا أكثر ولا أقل.
أما رأيه في الإنسان فهو آلي كالحيوان سواء بسواء، لولا أنه يمتاز بما فيه من عقل، وسنتناول بالشرح هذا الجانب فيما يأتي: (6)
فلسفة العقل:
أطلق «ديكارت» على مبحث العقل من فلسفته اسم «الميتافيزيقا»، وهي تعتمد في بحثها على الفكر المحض الخالص بخلاف «الفيزيقا»، فإنها لا بد لبحثها من الخيال لكي يوضحها ويجليها، وذلك مما جعل الميتافيزيقا أكثر دقة ويقينا من الفيزيقا، على الرغم من أن الأولى علم تجريدي. ويقول ديكارت في رسالة كتبها إلى الأميرة إليصابات في 18 يونيو سنة 1643م: إنه بينما كان ينفق من وقته ساعات طوالا كل يوم في دراسة الرياضة (والرياضة معناها الفيزيقا؛ لأن كليهما يبحث في الأجسام من حيث امتدادها في المكان)، فإنه لم يخص الميتافيزيقا إلا ساعات في كل عام. ومع ذلك فقد استطاع أن يضع لها مبادئ اطمأن إلى صحتها، واقتنع بما فيها من قوة ويقين.
كما تتميز الأجسام المادية بالامتداد، فإن العقل يتصف بالفكر، وهذا صحيح بالنسبة لكل عقل بما في ذلك عقل الله؛ لأن عقل الله لا يختلف عن عقل الإنسان المحدود إلا كما يختلف العدد اللانهائي عن اثنين أو ثلاثة. فصور لنفسك عقلا بشريا قد خلص من قيوده وحدوده يكن لك من ذلك فكرة واضحة عن الله، والعكس صحيح، أعني إذا تخيلت الله وقد انحصرت في حدود، كان لك من ذلك صورة للنفس الإنسانية، ولهذا السبب نفسه نستطيع أن نستنتج وجود الله من وجود عقولنا، ولكنا لا نستطيع أن نستنتج وجوده من وجود أجسامنا، بل ولا من العالم الطبيعي بأسره، أكثر مما نستنتج الأصوات من رؤية الألوان.
صفحة غير معروفة