أحمد أمين
13 ديسمبر سنة 1936م
فلسفة العصور الوسطى
تمهيد
لبثت الفلسفة في مرحلتها الأولى اليونانية نحوا من ألف سنة، تبدأ بطاليس سنة 624ق.م، وتنتهي بنهاية القرن الخامس بعد ميلاد المسيح. وفي نهاية هذه المرحلة كان صوت المسيحية قد دوى في أرجاء أوروبا. فبدأ الفكر الإنساني - وقد اصطبغ بذلك الدين المسيحي الجديد - شوطا جديدا، امتد نحوا من ألف سنة أخرى، كانت مهمة الفلسفة خلالها أن تؤيد بالدليل العقلي ما سلمت به النفوس بالإيمان تسليما لا يقبل ريبة ولا شكا.
وهكذا أصبحت الفلسفة تابعة للعقيدة، وأصبح العقل عونا لها.
ومما جعل للكنيسة في تلك العصور هذه المنزلة الممتازة أنها كانت القوة الوحيدة التي استطاعت أن تثبت لغزوات أمم الشمال المتبربرة التي قوضت الدولة الرومانية؛ فقد كانت هذه الدولة عاجزة من الوجهة السياسية، لا تقوى على حماية نفسها من برابرة الشمال، وكانت الحضارة العلمية على أيدي أولئك الغزاة، خصوصا إذا علمنا أن تلك الحضارة كانت في نفسها منحلة القوى، مقوضة الدعائم، وكانت الحياة الفكرية بأسرها، توشك أن تندك على أيدي هؤلاء الفاتحين السذج الجفاة، لو لم تكن هنالك تلك القوة الروحية التي اضطرت هؤلاء الغزاة إلى التسليم بها، والدخول في دينها، والتي عرفت كيف تنقذ هيكل المدنية، وتصونه خلال هاتيك القرون، تلك كانت قوة الكنيسة المسيحية التي قامت بما لم تستطع أن تقوم به الدولة.
فمن جانب الدين وحده، وعلى يد الكنيسة وحدها اتصل العالم الجديد بعلم القدماء، والنتيجة الطبيعية لهذا ألا تعرض الكنيسة على الناس من الفلسفة القديمة إلا ما كان متفقا مع تعاليم النصرانية، أما ما عدا هذا - وخصوصا ما يعارض النصرانية - فقد كان ينبذ نبذا. وبذلك ظلت الفلسفة الغربية خادمة للدين جملة قرون، وكان غرضها الأول تأييد العقائد الدينية، وتحديدها، وتنظيمها، وإظهار أن تلك العقائد التي نزلت من السماء تتفق أيضا مع العقل.
ومما يحسن ذكره أن تلك العصور الوسطى حين تلفتت إلى الوراء لتأخذ من القدماء ما أخذته من علم وفلسفة، قد سارت في نفس الطريق التي سلكها الأقدمون، ولكن في اتجاه عكسي؛ أي إنها بدأت السير من آخر الطريق إلى أوله؛ فقد بدأ اليونان بحوثهم العلمية مدفوعين بلذة البحث مولعين بجمال المعرفة في ذاتها، فلما قطعوا في الدراسة العلمية شوطا بعيدا أخذ العلم يتحول إلى خدمة الحياة العملية، وأصبح البحث الفلسفي وسيلة تستخدم للوصول إلى غاية وراءه، هي معرفة قواعد الأخلاق والبرهنة على تعاليم الدين. أما العصور الوسطى فقد بدأت السير من هذه المرحلة الأخيرة، أعني أنها بدأت بالبحث عن المعرفة لا لذاتها، بل لخدمة العقائد الدينية، ولكن بمضي الزمان تولدت في النفوس لذة المعرفة لذاتها، وأخذت تلك اللذة العلمية تتسع وتتمكن، حتى انتهى العلم آخر الأمر إلى الاستقلال بنفسه، وإلى معارضة العقيدة الدينية نفسها أحيانا، وقد كان أول الأمر وسيلة من وسائلها.
وتقع فلسفة العصور الوسطى في عهدين؛ أولهما: يسمى «عصر آباء الكنيسة»، وليس للفلسفة فيه من الشأن إلا القليل، والثاني: يسمى «العصر المدرسي»؛ لأن التعليم كان يقوم به جماعة من الرهبان في «مدارس الكنائس»، وقد أنشأ شارلمان كثيرا من هذه المدارس في جميع أنحاء فرنسا، وكان مدرسوها من رجال الكنيسة الذين حاولوا أن يلبسوا أغراض الكنيسة لباسا فلسفيا. ويمتد هذا العصر المدرسي إلى قيام النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر. (1) عصر آباء الكنيسة
صفحة غير معروفة