قرأ برونو فيما قرأ ما كتبه كوبرنيك في الفلك، فألفاه يميل في جملة رأيه إلى اعتبار الكون محدودا في مكان، فلم يرضه منه هذا الرأي، ونهض من فوره ينشر في الناس مذهبه الفلسفي الذي أساسه أن المكان لا نهائي، وتتحرك فيه أجرام لا عدد لها ولا حصر، وما دام في الكون عدد عديد من الشموس، يدور حولها من الكواكب ملايين وملايين، وكلها يتألف من نفس المادة التي تتكون منها هذه الأرض التي نعيش فوق ظهرها، فمن الخطل أن يحسب الإنسان أن هذه الأرض، أو هذه الشمس للكون الذي يستحيل عقلا على أن يكون له حدود ينتهي عندها، هذا وإن الكون وحدة متصلة لا تنفصل فيها أرض عن سماء، كما ذهب الظن بالناس طوال القرون الوسطى، فكل شيء في الكون وحدة متصل بكل شيء ونفس القوة التي تعمل هنا هي القوة التي تشرف هناك.
إذن فهذا الكون اللانهائي المتحد تشرف عليه قوة لا نهائية واحدة لا تختلف في مكان عنها في مكان آخر، ومجموع هذا الكون بكل ما فيه هو الله، فالله هو مصدر كل شيء وسبب كل شيء. الله هو الكون وهو في الوقت منشئه ومكونه، وكل شيء في الوجود - إنسانا وغير إنسان - مرآة صافية مجلوة تنعكس فيها صور العالم بعنصريه: عنصر العقل وعنصر المادة، وكل ذرة بالغة ما بلغت من الدقة والصغر تمثل الله، وتعلن عن وجوده بظهوره فيها، وهي جسدية وروحية في آن واحد - لأنها صورة من الله - وإذن فهي خالدة تستعصي على الفناء، وكل شيء في الوجود يتبع في سيره ومسلكه قانونه الخاص به، وهو في نفس الوقت يسير وفق قانون عام ينتظم العالم بأسره، كما يدور الكوكب حول محوره وحول الشمس في وقت واحد.
يضيف إلى نظرية ديمقريطس الذرية (التي تقول إن الكون مكون من عدد لا نهائي من الذرات) أن المكان مليء بأثير سيال، وهو يتصور أن هذا الأثير يمكن تقسيمه إلى ذرات (ولو خيالية) لا نهاية لعددها، ويسمي كل واحدة من تلك الذرات الأثيرية
Monad
ومعناها على وجه التقريب «ذرة روحانية» وهذا الأثير هو الذي يعمل على أن تتخذ الذرات المادية أشكالها وصورها.
العالم كله كائن حي، تتغلغل الروح العالمية في كل جزء منه. وينكر برونو أشد الإنكار أن يكون جزء واحد في الوجود بغير روح وحياة وإحساس، ولا شك أن هناك ينبوعا فياضا تتدفق منه الألوان المختلفة من المخلوقات، كما تنبعث الأشعة من الشمس، وإليه تعود كلها مرة ثانية، فالله كل ممثل في الأجزاء، هو حال في نجم النبات الضئيل وهو في حبة الرمل الصغيرة، بل وفي الهباءة السابحة في شعاع الشمس، حلوله في الكون كله باعتباره وحدة متصلة لا متناهية.
فليست طبيعة العالم في رأي برونو إلا هذا الاتساق المنسجم بين أجزائه، والانسجام هو أخص خصائص الكون، ومن يستطيع أن يدرك هذا الاتساق بين أجزاء الكون، وأن يفهمه على وجهه الصحيح، تلاشت أمام عينيه عيوب الأجزاء التفصيلية في جمال «الكل»، وإن من يشكو من قبح العالم أو نقصه لعاجز أن يسمو بنفسه، بحيث يرى «الكل» في انسجامه واتساقه. والعالم كامل لأنه هو حياة الله، فلا يجوز أن يشوبه شيء من نقص. وواجب الفلسفة وغايتها ينحصران في كشف هذا الانسجام التام بين المادة والصورة، وينبغي ألا تكون عبادة الفيلسوف وديانته إلا في تسريح الطرف في جمال الطبيعة الخلاب، فاعبد الله بالنظر في هذا الكون الذي ترى. (5-2) بوهمه
Böhme (1575-1624م)
ولد من أبوين فقيرين، وكان في طفولته يرعى الماشية، فلما شب صار حذاء يصلح النعال البالية، ولكنه امتاز منذ صباه بالتواضع والتقوى وخشية الله ، وكان لا يقرأ من اللغات إلا لغة قومه، ولم يكن يطالع من الكتب إلا الإنجيل، وقليلا من كتب المعاصرين والأسلاف، كان بينهما ما كتبه كوبرنيك في نظام الكون، فذهب معه إلى ما ذهب إليه من استحالة أن تكون الأرض أو أن يكون الإنسان مركزا لهذا الكون العظيم، فليس الإنسان في محيط الوجود إلا قطرة يسيرة.
وقد خالف بوهمه أولئك الذين يزعمون أن طبيعة الله وحدة متشابهة لا يداخلها شيء من تباين أو خلاف، ويرى أن الله هو أساس التنوع والاختلاف بين أنواع المخلوقات المتضاربة المتنافرة، فالوحدة الإلهية فيها عنصران متضادان مختلفان، وكل شيء في الوجود له ضد ونقيض، ولما كان الله هو علة كل شيء، لزم أن يكون في طبيعته هذان الجانبان المتناقضان، ففيه الشر إلى جانب الخير، ولكنه شر وجد ليكشف عن الخير كما يكشف الإناء المعتم ضوء الشمس اللامع، فبغير الشر يستحيل أن يكون هنالك في الوجود حركة أو حياة؛ إذ كانت تنطمس معالم الأشياء التي تميز بعضها من بعض، وكان يستحيل الكون كله إلى وحدة متشابهة رتيبة.
صفحة غير معروفة