النصارى الشهداء
مات الحكم في سنة 822م/207ه. بعد أن قضى في الحكم ستا وعشرين سنة، ترك وراءها الملك هادئا بعض الهدوء لابنه عبد الرحمن الأوسط؛ فقد أخضع المتسلمون في قرطبة بالسيف ثم نفوا، وتلقى المتزمتون من الفقهاء درسا لا ينسى، ولم يبق إلا إطفاء الاضطراب الدائم على التخوم المسيحية، وورث عبد الرحمن الأوسط ميل أبيه إلى التمتع باللذات والاستنامة إلى النعيم، ولكنه لم يرث منه قوة الخلق التي تحوط هذا التمتع وتلك الاستنامة من أن تكون ضعفا،
1
فقد أغرق في اللهو، وحول قرطبة إلى بغداد ثانية، وأخذ يحاكي إسراف هارون الرشيد الذي كان قد انتقل من عهد قريب من عالم الدنيا، ومن مشاهد لهوه ومسراته، إلى عالم نأمل أن يكون خيرا له وأبقى.
2
بنى عبد الرحمن القصور، وغرس الحدائق، وجمل مدينته بالمساجد والقناطر، وأولع بالشعر كغيره من ملوك الإسلام المثقفين، وكان يرى أن شعره لا يقل في منزلته عن شعر المجيدين، وإن زعم بعض المؤرخين أن كثيرا منه كان من أقلام غيره، وكان الأمير نقي الذوق، لين الخلق، سهل القياد، ملك زمامه طول حياته أربعة نالوا عنده الحظوة الكاملة، وهم: مغن، وفقيه، وامرأة، وعبد أسود، وكان أشد هؤلاء تسلطا عليه الفقيه يحيى بن يحيى الليثى، وهو هو نفسه الذي أثار الفقهاء على أبيه الحكم، ولكنه أصبح اليوم صاحب التأثير المطلق والكلمة التي لا ترد لدى الأمير الجديد، وكانت للأميرة «طروب» وعبده «نصر» سلطة نافذة في شئون الملك، أما «زرياب» المغني فإنه استغل حظوته عند عبد الرحمن في إنهاض الفنون والثقافة، وأبى أن يزج بنفسه في أمور الدولة التي قد تكون سيئة المغبة.
3
كان فارسيا، وكان تلميذا لإسحاق الموصلي المغني المقدم ببغداد، فحدث ذات يوم لسوء طالعه أن فاق أستاذه في غناء صوت بحضرة الرشيد، فحنق عليه إسحاق وخيره بين الموت والنفي، فاختار النفي ورحل إلى الأندلس، فأحسن عبد الرحمن استقباله وبالغ في إكرامه والإغداق عليه، وقرر له راتبا ضخما، ووهب له الدور، وأدر عليه الأرزاق، ومنحه الكثير من الميزات والهدايا، حتى بلغ الذروة في الجاه والثروة، وزاد إعجاب الملك بمواهبه حتى إنه كان يجلسه إلى جانبه ويؤاكله وينصت ساعات إلى غنائه وإلى ما يقص عليه من أخبار الأولين، ومن الحكم والأمثال التي وعتها حافظته من قراءاته الكثيرة.
وكان يحفظ في الغناء أكثر من ألف صوت، ويقول إن الجن تلقنه إياها، وهو الذي أضاف إلى العود وترا خامسا، وكان في ضربه العود منقطع النظير، يوشك من يستمع لضربه مرة أن يأبى الإنصات إلى سواه، وكانت له طريقة غريبة مع المبتدئين من تلاميذه، فكان يأمر من يريد تعلم الغناء أن يجلس ويغني بأعلى صوته، فإن كان ضعيف الصوت أمره أن يعقد حزاما حول خصره ليزيد في قوة صوته، فإذا كان ألص الأضراس لا يقدر أن يفتح فاه واسعا، أو كانت عادته أن يزم أسنانه عند النطق، أمره أن يضع في فمه قطعة خشب عدة ليال حتى ينفرج فكاه، فإن استطاع بعد ذلك أن يصيح بكلمة (آه) بأندى ما يكون من الصوت وأن يستمر صوته بمثابة واحدة في العلو، قبل أن يعلمه ويمرنه، وإلا أمره أن يذهب إلى حال سبيله، وبذ زرياب الناس جميعا في تهذيبه وفكاهته وحسن محاضرته، فأصبح أشهر رجل بالأندلس، وتحكم في الأزياء والعادات كما كان يتحكم فيها «بيترونيس»
4
صفحة غير معروفة