لقد وقع الغرب في مغالطة كبرى، وكان ذلك على أيدي مؤرخيه، عندما ابتكروا له قسمة التاريخ ثلاثة أقسام: قديم ووسيط وحديث، فظن أن هذه الأقسام متساوية الطول والوزن، ولما كان القسم الثالث هو ما يهم الغربي بصفة عامة رأيته إذا ما أرخ للإنسان لخص القديم في بضع صفحات، واكتفى من الوسيط بلمحات، ثم أفاض القول في الحديث، فإذا الصورة التي أمامه توهمه بأن الدنيا بأسرها إنما اجتمعت له في تاريخه الحديث، وأما القديم الذي امتد عشرات القرون وشهد أكثر من عشرين حضارة (في تقدير آرنولد توينبي) فلا يرى منه في صفحاته القلائل إلا طفلا يحبو أو قزما وقف به النمو عند حد محدود.
فلكي أوقظ القارئ العادي لكتابي «أرض مصر وأهلها» من هذه الضلالة؛ صرخت في وجهه قائلا ما معناه: عندما كان شيكسبير في إنجلترا يكتب مسرحياته شعرا، لم تكن أمريكا قد ولدت بعد، مع أن شيكسبير يعدونه في تاريخ الأدب شاعرا من العصر «الحديث»، وعندما كان الشاعر الروماني «أوفيند» يكتب شعره لم تكن الدنيا قد عرفت بعد شيئا اسمه «إنجلترا»، وعندما كان الشاعر اليوناني هوميروس ينظم ملحمته الإلياذة، كانت الأمة الرومانية كلها ما زالت في جوف العدم، وأما حين كان هوميروس ذاك ينظم ملحمته تلك، فقد كانت مصر قد أمضت من تاريخها نحو أربعين قرنا تنشئ أدبا وشعرا وديانة.
لقد رسم ليوناردو دافنشي على شفتي الجيوكوندا ابتسامة وقف عندها العالم كله - ولا يزال يقف عندها - فتونا بسرها وسحرها وغموضها، وكان الفنان المصري القديم قد انقضى على عهده تلك العشرات من القرون بعد أن نقش على حجر الجرانيت مثل تلك الابتسامة العميقة الدلالة على شفاه من خلدهم بفنه، وإنها لابتسامة تراها على كل تمثال مصري قديم، فترى فيها شيئا من السخرية الهادئة بمن تغره الدنيا بحوادثها العابرة فيفوته التعلق بالخلود. وهنا أسمح لنفسي بأن أستطرد في حديثي قائلا : إنه قد حدث لي أثناء زيارتي لمتحف المتروبوليتان بنيويورك في ديسمبر من سنة 1953م (ووصفت تلك الزيارة في كتاب «أيام في أمريكا»)، أن بدأت الزيارة بالقسم المصري، وكان لا بد لي أن أفعل بحكم مصريتي من جهة، وبحكم أنه أول الأقسام موقعا من المتحف من جهة أخرى، وسرت خلال الغرف العشر المفتوح بعضها على بعض في تسلسل واحد بخطوات وئيدة ونظرات فاحصة تتأمل العظمة فيما هو معروض أمامها، وعند تمثال صغير من الحجر الأسود أطلت الوقوف، فهتف بي صوت من الخلف سائلا: أيعجبك هذا التمثال؟ ونظرت خلفي لأجد سيدة أمريكية عرفت فيما بعد أنها فنانة وتقوم بتعليم الفن في معاهده، أجبت على سؤالها بكلمة واحدة: بالطبع. فعادت إلى الحديث قائلة: إنني لو رأيت هذا التمثال في كفة والفن المعاصر كله في كفة، وقيل لي اختاري إحدى الكفتين، لما ترددت لحظة في اختيار هذا التمثال الصغير، الذي اجتمعت فيه روعة الفن النحتي في أبهى صورها.
تلك هي مصر التي طلب إلى كاتب مصري أن يصورها في كتاب متوسط الحجم، فلما أن فرغت في سبتمبر من 1956م من إعداد الكتاب بما يرضي عقل العالم وقلب الأديب وضمير الوطني المفتون بحب وطنه، وهممت بإرسال المخطوط إلى دار النشر في نيويورك، كانت المواصلات بيننا وبين أمريكا قد اضطربت نتيجة للعدوان الثلاثي على مصر إبان تلك الفترة، فأرسلت المخطوط مع صديق مسافر حتى لا يفوتني موعد التسليم كما اتفقنا عليه.
ومضت ثلاثة أشهر أو نحوها، ثم جاءني خطاب من الناشر يحمل اعتراضات على نقاط معينة مذكورة في الكتاب، كان أهمها ما هو متصل بالاحتلال البريطاني وبالمشكلة العربية الإسرائيلية، فأرسلت من فوري أطلب رد المخطوط وإلغاء الاتفاق، فأنا المؤلف وأنا المصري فلي في كتابي عن مصر الكلمة الأولى والكلمة الأخيرة، فما كان من دار النشر - بعد بضعة أشهر - إلا أن ترسل إلي بالموافقة على نشر الكتاب، وصدرت طبعته الأولى سنة 1958م. ولست أعزو النجاح الذي لقيه لشخصي بقدر ما أعزوه لمصر ومجدها اللامع وشعبها العظيم، فليست المسألة تاريخا طويلا يعد بآلاف السنين، وإلا لكانت القيمة كلها قيمة عددية، بل المهم في الحديث عن المصري وبلده وتاريخه هو الجوهر الأصيل الذي عبر عن نفسه بالدين والعلم والصناعة والفن، والسيادة بهذا كله على سائر الدنيا طيلة عشرات من القرون تلاحقت سطوعا بعد سطوح كالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها.
2
نقرأ تاريخ الأقدمين الأولين، فنقرأ عن الأكاديين والآراميين والحيثيين والآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين ... ذهبوا جميعا وبقي المصريون كما كانوا مصريين من أول الدهر، فيما سجل التاريخ وقبل أن يسجل.
بقي المصريون من أول الدهر كما كانوا مصريين، يربطون الرباط الوثيق بين الأرض والسماء، بين الحياة وما بعد الحياة، ورفعوا لذلك رمزا ناطقا في مسلاتهم وأبراجهم ومآذنهم؛ مسلات الهياكل وأبراج الكنائس ومآذن المساجد، وارتفعت كلها لتشير إلى السماء، وكأنها أصابع السبابة من الأيدي بسطت لتشهد أن لا إله إلا رب العالمين. وهل كانت مصادفة شاردة من مصادفات التاريخ أن قويت المسيحية في كنف الإسكندرية قبل أن تعبر البحر إلى أوروبا، وأن اجتمع تراث الإسلام في حمى القاهرة بين جدران الأزهر الشريف؟ إنها مصر، بلد العقيدة الدينية نشأة ورعاية (راجع مقالة «المصريون وسر خلودهم» في كتابي «هذا العصر وثقافته»). ... إن روح التدين التي تغلغلت في أعماق هذه الأمة منذ أقدم القدم، قد نتج عنها نتيجة أعانتها على الخلود، وهي جمع الإنسان الواحد بين أن يكون فردا وأن يكون في الوقت نفسه مواطنا؛ وذلك لأن هاتين الصفتين قد تجتمعان معا في شخص واحد وقد لا تجتمعان؛ لأن الإنسان الواحد قد يغوص إلى أذنيه في فرديته، وكأنه في هذه الدنيا وحيدا لا يجاوره أحد سواه، وكذلك قد تجد الإنسان الواحد يغوص إلى أذنيه في خدمة الآخرين؛ لينسى أنه بدوره فرد يجب أن يعيش ... ولقد اجتمع الجانبان معا في المصري؛ لأنه يحمل في قلبه عقيدة دينية، فهو بحكم عقيدته الدينية مسئول عما يفعل مسئولية فردية، وبحكم هذه العقيدة نفسها أيضا هو مطالب بألا يعيش بمعزل عن الناس، بدليل قيام الشعائر التي تحتم أن يجتمع العابدون في مكان واحد وهم جماعة، ومن روح التدين العميقة العريقة عند المصري تعلم أن يجمع الجانبين في صدره بغير عناء؛ فهو يشعر بأنه فرد مسئول، وهو في الوقت نفسه يشعر أنه ملتزم بأمته ... (راجع «المصريون وسر خلودهم» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).
خذ ما شئت مما تراه في حياتنا ولا ترى مثله في حياة الآخرين؛ تجد فكرة الدوام - أي فكرة الخلود - الذي يعلو على اللحظة العابرة، تجدها كامنة فيه قريبة إلى الظهور أحيانا عميقة الخفاء أحيانا؛ فالدوام هو معيارنا في التغير الذي نقبله أو التغير الذي لا نقبله، فما جاء على أطر حياتنا العميقة إضافة تفيد ولا تضر قبلناه، وأما ما جاء ليهدم لنا الأطر الأساسية ذاتها فهو مرفوض.
وعندنا أن حرية المفكر وحرية الفنان وحرية الإنسان بصفة عامة مشروطة بالتزام الثوابت التي تدوم (راجع «ثقافة المصري وجذورها» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).
صفحة غير معروفة