وذلك «الماوراء» هو «منهج» النظر إلى العالم بصفة عامة، وفي دنيا العلم والفن وغيرهما من مناشط الحياة بصفة خاصة، كنا نحن وهم جميعا على نهج واحد إبان العصور الوسطى، فكلنا معا في مركب واحد - كما يقولون - نطفو معا أو نغرق معا، وكان الفرق بيننا وبينهم إبان تلك العصور، ليس هو أن لنا نهجا للنظر وأن لهم نهجا آخر، بل كان الفرق عندئذ هو أننا نحن الذين أمسكوا بزمام القيادة وهم التابعون، وأما النهج الواحد المشترك الذي أشرت إليه فهو أن كلينا كان يقرأ «الكتب» ويستخرج منها طرق الحياة بجميع مشكلاتها، ثم نهضت أوروبا بأبنائها، أو نهض بها أبناؤها منذ القرن الخامس عشر وما بعده، ولم ننهض نحن مثل نهضتهم، وكان معنى النهوض هو: هناك غيروا المنهج واستبدلوا به منهجا جديدا، فبدل أن تكون الكتب القديمة هي المرجع المقروء الذي لا مرجع سواه؛ فالحق هو ما قالته تلك الكتب والباطل هو ما لم تقله أو ما أشارت هي إلى بطلانه. أقول: إنهم - بدل ذلك - جعلوا مرجعهم المقروء هو الطبيعة ذاتها، ومعها باطن النفس الإنسانية لمن يستطيع استبطان نفسه في دقة العلماء، فعلوا ذلك هم ولم نفعل نظيره (إلى يومنا هذا)، فكانت لهم نهضة ولم يكن لنا مثلها، وتغير عندهم معنى «العلم» ولم يتغير عندنا، إذا أصبح العلم عندهم كشفا عن أسرار الطبيعة وصياغة قوانينها، وأما العلم عندنا فقد ظل كما كان، وهو أن «نحفظ» ما في بطون الكتب، وليس ثمة فرق جوهري بين كتب وكتب ما دام المحور هو «حفظ» ما فيها واسترجاعه كلما دعت الضرورة؛ وأقول ذلك لأن الكتاب المحفوظ قد يكون طبا أو كيمياء أو ما شئت من مواد، ثم يحدث في أذهاننا خلط كالذي حدث لصديقي الطبيب النابه الذي أشرت إليه، عندما لم يفرق بين نفسه وقد «حفظ» كتابا وبين مؤلف الكتاب الأصيل الذي بحث في ميدانه واستخرج الحقائق العلمية وأثبتها في كتاب هو الذي «حفظه» صاحبنا فيما بعد، فكان بيننا من النابهين، وإذا كان هذا هكذا، فلم يكن عجيبا مني ومن أمثالي الذين دعوا إلى اصطناع حضارة الغرب وثقافته بحذافيرها، لعلنا نبلغ بها ما بلغوه من علم وسلطان.
2
لكن الجديد الذي استحدث في موقفي منذ أواسط الستينيات هو أن ذلك وحده - على ضرورته وحتميته - لا يكفي؛ لأنه قد يتحقق لنا يوما ما، فيكون الثمن الذي دفعناه في مقابل ذلك هو أنفسنا، فمن الضروري الحتمي كذلك أن أحافظ على هويتي العربية (وهويتي المصرية قبلها لتكون أساسا لها) فينشأ على الفور سؤال محوري هو: كيف يمكن الجمع بين منهج النظر الذي أتناول به شئون الحياة بما فيها من علوم وصناعات ونظم للحكم والاقتصاد والتعليم ... إلخ، وبين أن أظل مصريا عربيا بما يستلزمه هذا الانتماء من نواح في العقيدة وأسلوب العيش، مما قد يبدو من الظاهر أنه يتناقض مع ما يقتضيه المنهج الجديد؟
هنالك من صفوة مثقفينا من رأيته يستخف بالمشكلة حتى ليزعم أنه لا إشكال، فمن طبائع الأمور - هكذا رأيتهم يقولون - أن يكون المصري مصريا ويحيا عصره معا، كأنما المسألة في رأيهم تشبه حياة الكائنات الحية جميعا - من نبات وحيوان - حين يحافظ الكائن على طبيعة نوعه، ثم يتكيف لظروف بيئته في وقت واحد؛ فشجرة القطن - مثلا - لا تستطيع إلا أن تنتج قطنا ما دامت البذرة التي انبثقت منها هي بذرة تنبت مثل هذه الشجرة، ولكنها بالإضافة إلى ذلك قد تحاط بأحوال من المناخ والتربة تختلف قليلا أو كثيرا عما تحاط به زميلتها التي تنبت في أمريكا أو في الهند؛ وعندئذ لا بد لها من التكيف لظروفها؛ ومن ثم فهي تنتج قطنا «مصريا» له خصائصه المميزة.
لكن الأمر في حياة الإنسان وثقافته مختلف؛ لأن وجوده غير مقتصر على الوجود البيولوجي الصرف، بل يضاف إليه عنده «وجهة نظر» يقيمها على مجموعة من «القيم»؛ ومن هنا ينشأ إشكالنا: ففي رءوسنا مجموعة معينة من القيم كونت لنا وجهة نظر معينة، ليست هي وجهة النظر التي من شأنها أن تنتج مثل ما أنتجه الغرب من علوم وما يترقب عليها، فهل من سبيل إلى جمع هذين الطرفين في كيان واحد؟ بمعنى أن يظل جانب من قيمنا ووجهة نظرنا كاف للحفاظ على هوية متميزة، وفي الوقت نفسه نلبس لدنيانا منظارا كالذي لبسه الغربيون منذ نهضتهم؛ فيكون لنا بذلك شيء مما كسبوه دون أن يضيع من شخصيتنا المتميزة شيء يمس صميمها وجوهرها.
المشكلة حقيقية وعويصة، يشاركنا فيها كل أصحاب الحضارات القديمة، ولا يشاركنا فيها أبناء الحضارة الغربية الراهنة، فهؤلاء الغربيون لا يجدون أمامهم إلا حضارة واحدة وثقافة واحدة، تطورت من أصولها اليونانية والرومانية حتى باتت على ما هي عليه، فليس بين أيديهم قديم يصدم جديدا، ولا جديد يصدم قديما. وأما نحن من أبناء الحضارات القديمة فأمامنا حضارتان نريد الحفاظ عليهما معا، فبالنسبة للأمة العربية - والمصريون جزء منها - هنالك موروث في أيديها ورثته من السلف، وهنالك في الوقت نفسه حضارة أخرى وثقافة أخرى تنبني عليها، هي حضارة هذا العصر وثقافته، ولا مندوحة لها - إذا أرادت لنفسها عيشا سريا في زمانها - عن أن تتشرب عصرها بحضارته وثقافته، فماذا هي صانعة؟ إنه لو كان الأساس مشتركا بين تراثها من جهة وما تراه في عصرها من جهة أخرى لما كان إشكال؛ لأن أمرها عندئذ كان ليجيء شبيها بموقف الغربي في أوروبا وأمريكا؛ إذ يرى بين يديه حضارة وثقافة هي نفسها الامتداد الطبيعي لما كان في تاريخه الماضي يونانا ورومانا، فلا تناقض عنده بين ماض وحاضر.
لكن التباين قائم على أشده بين تراثنا من ناحية، وما يحيط بنا من ثقافة عصرنا من ناحية أخرى؛ فالاختلاف بينهما ضارب إلى الأساس، فثقافة أسلافنا المبثوثة في تراثهم ثقافة قوامها «مبادئ» تكتب لفظا على ورق الكتب ليلتقطها الأبناء والأحفاد، فتكون هي «القيم» التي ينظمون سلوكهم على منوالها، ويصوغون أذواقهم الجمالية على هداها، وأما ثقافة العصر فقوامها «أجهزة» علمية تتخذ أدوات للبحث عن أسرار الطبيعة، وتنتهي بالباحثين إلى إنتاج «آلات» تقام الحياة العملية على استخدامها. وإذا أردت عبارة واحدة موجزة تحدد الفرق بين الثقافتين، فقل إن ثقافة تراثنا هي ثقافة «أخلاق» وثقافة العصر ثقافة «علوم». وكلمة «الأخلاق» هنا مقصود بها معناها الواسع الذي هو الجانب السلوكي في تعامل الإنسان مع الإنسان، وكذلك كلمة «العلوم» هنا مقصود بها أن تشمل ما يترتب على العلوم من أجهزة يستخدمها الإنسان في النقل والتبريد والقتال والتثقيف وشتى مناحي الحياة. ثقافتنا الموروثة ثقافة مدارها «الكلمة»، وثقافة عصرنا مدارها «الجهاز» بكل ما تستتبعه هاتان السمتان من نتائج بعيدة الآماد.
وما أكثر ما يقع فيه المثقف العربي من حرج يشده هنا ويجذبه هناك، حتى لتأخذه من ذلك حيرة تشل قواه الخلاقة، فبينما «الكلمة» الموروثة توحي إليه بشيء، تجيء «الأجهزة» فتوحي إليه بنقيضه، وبين النقيضين يقع فريسة سهلة، أهي قليلة تلك الحالات التي نرى فيها رجال العلوم - وأرجو التنبه هنا إلى كلمة «علوم» كالطبيعة والكيمياء وما إليهما، أقول: إنها ليست قليلة تلك الحالات التي نرى فيها رجال «العلوم» هؤلاء علماء بمنهج العلم وهم في معاملهم ومراكز أبحاثهم وقاعات محاضراتهم، حتى إذا ما أووا إلى منازلهم ليباشروا حياتهم الخاصة؛ فتحوا صدورهم لأبشع ضروب الخرافة، فاستقبلوها فرحين بها كما يفرح عابرو السبيل الذين لم يظفروا من العلم كثيرا أو قليلا، لا بل إن رجال العلم هؤلاء ليصبحون أشد خطورة من عابري السبيل؛ لأن الناس يستشهدون بهم وهم مطمئنون، فإذا كان فلان حامل الدكتوراه في الكيمياء يقبل كذا وكذا، أيكون هناك ما تطمئن النفس إلى صوابه أكثر منه؟
التضاد جاد بين بعض الجوانب في ثقافتنا الموروثة، وبعض الجوانب في ثقافة عصرنا بعلومه وصناعته وفنونه ونظمه، والمشكلة تحتاج منا إلى إمعان نظر لا يستخف بحجم الإشكال وخطورته. وأزعم أني منذ أواسط الستينيات وإلى يومي هذا لم أدخر جهدا إلا بذلته في أن أدلي بدلوي بين الدلاء - كما يقولون - ابتغاء الاقتراب من حل مقبول.
3
صفحة غير معروفة