هكذا فرضت الفرض، واستخرجت منه ترتيب المراحل الثقافية التي اجتازها الفكر العربي إبان قوته ونمائه، ذلك إذا صدق الفرض على الواقع.
فلم يكن أمامي بعد ذلك إلا أن أطالع نماذج من نتاج القرون الخمسة الأولى التي أردت دراستها، باحثا في كل قرن منها عن أهم ما أثير من مسائل فكرية وأهم ما قيل في تلك المسائل من آراء، وأبرز من أسهموا فيها من الرجال. فإذا بي وكأني أرى المراحل الإدراكية التي حددتها آية النور ماثلة أمامي واحدة بعد واحدة، في الأولى وجدت إدراكا للأمور بالفطرة الذكية، وفي الثانية وجدت إدراكا علميا عقليا يستخلص القواعد والقوانين والمبادئ في مجالات المعرفة كاللغة والفقه، وفي الثالثة وجدت مزيدا من دقة الإدراك العلمي والفلسفي، وفي الرابعة وجدت إدراكا موفيا للحق يعلو على عمليات العقل في استخراج القواعد وصياغة القوانين؛ إذن فها هو ذا طريقي، ولم يبق إلا أن أسير على بركة الله.
2
لم يكن عسيرا على العين في أن ترى في المرحلة الأولى من مراحل السير - وهي القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) - كيف كان الموقف مزيجا من أدب وشعر وفروسية وسياسة؛ فالسياسي أديب وفارس، والفارس أديب وسياسي. ولقد اخترت الإمام عليا نموذجا لتلك المرحلة، فهو كل العناصر التي ذكرناها، وأحكامه ومواقفه لا تحتاج منه إلى دراسة منهجية واستشارة للمراجع، بل هو بديهة قوية ترى بلمع البصيرة ولمحها.
على أن أهم ما استوقف نظري في تلك المرحلة الأولى: هو الصلة الوثيقة الحميمة بين الفكر والواقع؛ فالمشكلات التي تطرح تحت أنظار المفكرين إنما هي نبت نبت من أرض الحوادث الجارية وما تثيره من أسئلة تنتظر الحلول، فمن معركتي الجمل وصفين - اللتين نشبتا بسبب الخلافة ومن ذا يكون حقيقا بها - نشأت عدة أسئلة كانت هي أول ما طرح على المسلمين في مجال الفكر النظري، وكان من أهمها مشكلة الذنوب الكبيرة ومقترفيها؛ فها هي ذي حرب بين فريقين من المسلمين فيهم صفوة من صفوة المسلمين، وحسبنا أن يكون فيهم عائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين. نعم، ها هي ذي حرب ناشبة بين فريقين من هؤلاء، سفكت فيها دماء، وما داما فريقين متخاصمين على قضية معينة، فلا بد أن يكون من الفريقين فريق واحد - على الأقل - قد جانب الحق؛ إذ لو كان كلاهما على حق لما اختلفا وتقاتلا، فماذا يكون الحكم فيمن يثبت عليه الخطأ منهما؟ ألا يكون هو المسئول عن الدماء المسفوكة؟ فهل يعد مع هذا الذنب الكبير مسلما كما كان، أم يعد خارجا على الإسلام؟ ... طرح السؤال، فجاءت عنه إجابات ثلاث، لو تحدثنا عنها هنا بمفاهيم عصرنا هذا، لقلنا: إن إجابة منها جاءت من يسار متطرف - وهم الخوارج - تقول إنهم بذنبهم ذاك يكونون كفارا، وإجابة ثانية جاءت من يمين متطرف، تقول بل إنهم جميعا يظلون مسلمين كما هم، وإجابة ثالثة جاءت من وسط معتدل، تقول بل إن من يثبت عليهم الخطأ لا هم مسلمون أكمل الإسلام، ولا هم خارجون على الإسلام، بل هم في منزلة وسطى بين المنزلتين، هي منزلة «المسلم العاصي». كان هذا الوسط المعتدل متمثلا أول ما تمثل في واصل بن عطاء، وكان في حلقة دراسية حول شيخها الحسن البصري، عندما طرح السؤال المذكور، فما كان من واصل إلا أن أبدى الرأي المعتدل الذي ذكرناه، ولعله لم يصادف قبولا عند شيخه؛ فترك الحلقة وجلس على مقربة منها ليلحق به من يؤيده في فكرته تلك، وعندئذ قال شيخه الحسن البصري عنه: قد اعتزل عنا واصل، فأصبح اسم «المعتزلة» يطلق على أتباع واصل، ثم اتسعت الدائرة على مر السنين وتشعب المعتزلة وتنوعت قضاياهم الفكرية، لكنهم عرفوا جميعا بطابع مميز هو «عقلانية» النظر واعتدال الأحكام. وهكذا نشأ تيار فكري أعتقد أنه من أقوى ما شهد المسلمون الأولون في دنيا الفكر النظري. وأعود فأكرر ما أسلفته، وهو أن ما يستوقف النظر مما يفيدنا نحن اليوم هو الطريقة التي خرجت بها المشكلة الفكرية من أحداث الواقع، كما ينبغي لكل فكر أن يكون.
ولم تلبث أن تفرعت من ذلك مشكلة أخرى كانت أول ما عرض على الفكر الإسلامي من قضايا السياسة، ألا وهي مشكلة الخلافة ومن ذا يكون أحق بها؟ وسرعان ما انتقل التفكير من مجرد النظر في الأمر على أنه مشكلة جزئية تنحصر في أشخاص الفريقين المتحاربين في موقعتي الجمل وصفين؛ ليصبح تفكيرا في النظرية السياسية من حيث هي، فهل هنالك ما يقتضي أن تنحصر الخلافة في بيت الرسول؟ أو أنها حق لكل مسلم تتبين صلاحيته للحكم دون الآخرين؟ فكانت تلك هي اللحظة التي انشعبت عندها الآراء في مذاهب، كان أهمها الرأي الذي جعل الحكم حقا لعلي وبنيه من بعده، وهؤلاء هم «الشيعة» - شيعة علي - وبجانبه رأي مضاد هو رأي «الخوارج» الذين خرجوا على تبعيتهم لابن أبي طالب، قائلين إن الحكم إنما يكون لأصلح الناس له من المسلمين أجمعين، عربا أو عجما على السواء، ومن بيت الرسول أو من خارج البيت.
وأخذت المسائل الفكرية تتفرع في موضوعاتها، ويتفرع معها المفكرون مذاهب وتيارات، لكنها جميعا تعكس واقع الحياة، حتى ما قد يظن منها أنه فكر نظري بحت، ففي أواخر المرحلة الأولى في رحلتنا الثقافية هذه - ونحن الآن قد جاوزنا مرحلة الفطرة والبداهة إلى مرحلة «العقل» ومنطقه في معالجة ما ينشأ من مشكلات - كانت دراسة اللغة والنحو على أشدها؛ فالهدف هو الكتاب الكريم وإجادة فهمه، ولا بد للفهم الجيد من إتقان لدراسة اللغة وكل ما يتعلق بها، فماذا عسى أن تقول إذا ما نظرت فوجدت جماعتين من الدارسين: إحداهما في البصرة، والأخرى في الكوفة، فإذا هما تختلفان إحداهما عن الأخرى في الأساس العميق الذي تبنى عليه الدراسة اللغوية؛ فجماعة البصرة - وفيها الخليل بن أحمد وسيبويه - ذهبت إلى أن يكون العقل بتقسيماته المنطقية هو أساس الدراسة، بمعنى أن منطق التقسيم لو أخرج لنا لفظة مشتقة من أخرى على قواعد الاشتقاق النظرية؛ وجب اعتبارها صحيحة حتى ولو لم يكن القدماء - الجاهلية - قد استعملوها. وأما جماعة الكوفة - ومنها الكسائي - فترى أن ما لم يستعمله العرب الأولون فهو غير صحيح ولا يجوز استعماله، فليست العبرة بالقواعد النظرية وتطبيقها، بل العبرة بتاريخ العرب وما قالوه بالفعل. أقول: ماذا عسى أن تقوله إذا ما نظرت فوجدت هاتين الجماعتين منهمكتين في دراستهما اللغوية إلا أن تقول إنه علم للعلم في ذاته، حتى وإن كان بينهما اختلاف على الأساس، ولكن أمعن النظر تجد في جماعة البصرة من هم من أصول فارسية، وأن جماعة الكوفة من الأرومة العربية الخالصة، أفلا تأخذك الريبة إزاء هذا أن تكون جماعة البصرة قد لجأت إلى إعمال العقل وحده حتى لا يتركوا أفضلية لمن هو سليل أصل عربي، وأن جماعة الكوفة قد جعلت مرجعهم في الصواب والخطأ ما قاله العرب أو لم يقولوه؛ ليحتفظوا لأنفسهم بالمنزلة الأولى؟ على أن ما يهمنا في هذا كله هو الصلة الحيوية القائمة بين العمل العلمي والثقافي من جهة، واهتمامات الناس وهمومهم الحقيقة من جهة أخرى.
وكان لا بد أن ينصرف المفكرون بكثير من جهدهم نحو طائفة من جوانب العقيدة الإسلامية ليتناولوها بالتحليل ابتغاء الوضوح، ومن أهم تلك الجوانب فكرة التوحيد ذاتها التي هي رسالة الإسلام الأساسية، فماذا تتضمنه «الوحدانية» من معنى؟ لأنه إذا كانت واحدية الذات الإلهية لا تتطلب كثيرا من العناء لفهمها، فماذا يقال في «الصفات» التي توصف بها تلك الذات؟ هي صفات كثيرة كالحياة والعلم والإرادة والخلق والرحمة إلى آخر ما يحفظه المسلم منها، أفلا تنطوي على «تعدد» إذا نحن فهمناها على أن لها استقلالا بذاتها؟ وها هنا كنت تجد الاختلاف قائما بين المعتزلة وأهل السنة: الأولون يقولون إن تلك الصفات لا تفهم إلا من حيث هي الذات نفسها، فإذا قلنا عن الله سبحانه وتعالى إنه «عليم» كان معنى ذلك أن العلم الإلهي هو نفسه الذات في علمها، وهو «خالق» كان الخلق هو الذات نفسها وهي خالقة، وهكذا. لكن أهل السنة لم يريدوا لأنفسهم مثل هذا التعقيد في فهم المعاني، فظاهر العبارة التي تقول عن الله إنه عليم، يدل على أن للعلم معنى قائما وحده والذات موصوفة به.
وإذا انتقلت إلى حلقة أخرى من حلقات البحث والنقاش - ونحن الآن في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) وفي مدينة البصرة التي كانت تعج برجال الفكر - فترى موضوعا آخر محورا للخلاف هو موضوع «العدل» الإلهي؛ إذ من فكرة العدل ينشأ سؤال عن حرية إرادة الإنسان في فعله ليكون مسئولا أمام الله يوم الحساب عن اختياره، وبهذه الحرية والتبعة الأخلاقية التي تترتب عليها كان يقول المعتزلة، لكن فريق الجهمية يتصدى لهم؛ لأن ذلك الفريق يأخذ بالجبرية المطلقة، مستندين في ذلك إلى نصوص قرآنية كثيرة تدل على أن كل ما يفعله الإنسان إنما هو بمشيئة الله.
3
صفحة غير معروفة