ولما كان التفكير العلمي وحده هو الذي جعلته مدار الاهتمام في المؤلفات المذكورة، فلم يكن حديثي فيها يمس الجانب الوجداني في كثير أو قليل، لكن انصراف الاهتمام إلى جانب واحد هو جانب العلم ومنهاجه - وهو نفسه جانب «العقل» - لم يكن يعني إنكار الجانب الوجداني من فطرة الإنسان وحياته، فلا ينكر الجانب الوجداني إلا مجنون.
وفي أوائل سنة 1960م أصدرت كتابا صغيرا أحدث شيئا من الدوي عند القراء، وهو كتاب «الشرق الفنان»، جاء بمثابة حجر الزاوية في بناء فكري جديد، ظهرت معالمه الكبرى خلال السبعينيات في سلسلة كتب كان أهمها: «تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» و«ثقافتنا في مواجهة العصر» وهو بناء فكري جاء ليكمل - لا لينتقص - ما أنجزته خلال الخمسينيات من تحديد لمنهج التفكير العلمي.
فلقد أوضحت في «الشرق الفنان» المعالم الرئيسية لثلاثة أنماط فكرية ظهرت في تاريخ الإنسان المتحضر، وتلك الثلاثة الأنماط فيها طرفان متضادان ووسط بينهما يجمع الضدين في صيغة واحدة، أحد الطرفين هو الشرق الأقصى الذي كانت السيادة في إبداعه الثقافي للحدس الصوفي، وأما الطرف المضاد فقد شهدته اليونان القديمة (ومن بعدها الغرب كله)، حيث كانت السيادة في المنجزات الفلسفية الكبرى للعقل ومنطقه في استدلال النتائج من مقدماتها استدلالا له شروطه وضوابطه، ثم جاءت الحياة الثقافية فيما نسميه بالشرق الأوسط، وسطا يجمع الضدين في كيان واحد، ففيه حدس المتصوف وفيه منطق الفيلسوف.
ولم يكن يخطر ببالي عند إقامة ذلك التقسيم منهج التفكير الجدلي عند هيجل، ولم يكن تصوري للأمر ذهنيا نظريا يقيم الدعوى ثم يخرج منها نقيضها، ثم يجمع الطرفين في تأليف جديد، كلا، لم يخطر لي شيء من ذلك على بال؛ فقد استقرأت معالم التراث الإنساني كما شهدته عصور التاريخ بالفعل، فمن هم الأعلام في الهند والصين؟ وماذا كانت أهم كتبهم التي خلفوها؟ ومن هم الأعلام في اليونان القدماء؟ وماذا خلفوه؟ وأخيرا من هم الأعلام في التراث العربي؟ وما أهم كتبهم التي خلفوها؟ ولست أظن أن حقيقة الأمر تظل خافية أمام أسئلة حتى ولو لم يكن عند المجيب إلمام واسع بتلك الثقافات وأعلامها، فمن ذا الذي لا يقفز إلى ذهنه بوذا وكونفوشيوس والماهابهاراتا إذا ما ذكرنا تراث الشرق الأوسط، فإذا ما حضرت أسماء كهذه إلى الذهن، فهل تخفى طبيعة ما خلفوه؟ هل يخفى على أحد أن تراثهم كان أقرب إلى «الحكمة» التي يعبر بها صاحبها عما يحسه، وكأنه «أديب» يترجم لخبراته ترجمة ذاتية؟ ثم من ذا الذي تذكر أمامه ثقافة اليونان القدماء، فلا يقفز إلى ذهنه سقراط وأفلاطون وأرسطو وشيء مما خلفوه، وأن الطابع العام لما خلفوه كان «فلسفة» تضع المبادئ وتستنبط النتائج، وأخيرا من ذا الذي يذكر له التراث العربي فلا تقفز إلى ذهنه أسماء لوامع كالجاحظ والمعري وابن سينا وابن رشد والغزالي وابن خلدون؟ ومعهم رجال من أمثال الحلاج وابن عربي، والذي قد لا تستحضره الأذهان في يسر هو أننا إذا ما حللنا عيون التراث العربي في شتى ميادينه؛ وجدناها نسيجا متآلفا بين فكر عقلي منطقي ووجدان صوفي وشعري، حتى ليخيل للمتعقب أن اللغة العربية ذاتها قد ركبت تركيبا يحمل الجانبين معا، فهي منطقية إلى حد بعيد إذا قيست إلى غيرها من اللغات، ثم هي مشحونة بشحنات وجدانية إلى حد بعيد كذلك.
وشيئا فشيئا مع مر الأيام أخذت تلك الازدواجية المتآلفة في الثقافة العربية تبدو أمام عيني وكأنها قابلية فريدة وسمة بارزة يمكن أن تكون أساسا متينا لإقامة ثقافة عربية جديدة، تصون أصالتها وتساير عصرها في آن واحد. والآن إلى شيء من تفصيلات الصورة كما أوردتها سنة 1960م في «الشرق الفنان».
2
عندما اخترت لذلك الكتاب الصغير اسم «الشرق الفنان» أردت «بالفن» أوسع معانيه، وهو أن ينظر الإنسان إلى الوجود الخارجي نظرة ذاتية مباشرة، كأنما ذلك الوجود خطرة من خطرات نفسه، أو نبضة من نبضات قلبه، وتلك هي نظرة الروحاني، ونظرة الشاعر، ونظرة الفنان، وهي نظرة تتم على خطوة واحدة، بخلاف العلم النظري الذي تتم نظرته إلى العالم على خطوتين: في الأولى يتلقاه كما تنطبع به الحواس انطباعا مباشرا، وفي الثانية يستخلص من معطياته الحسية نظريات وقوانين يصور بها مجرى الظواهر والأحداث.
فانظر إلى العالم من داخل تكن فنانا، أو انظر إليه من خارج تكن عالما، انظر إلى العالم من باطن تكن شاعرا، أو انظر إليه من ظاهر تكن من رجال التجربة والعلم، انظر إليه وجودا واحدا حيا تكن من أصحاب الخيال البديع المنشئ الخلاق، أو انظر إليه كثرة من ظواهر يصحب بعضها بعضا أو يعقب بعضها بعضا تكن من أصحاب العقل النظري الذي يستدل النتائج، ويقيم الحجة والبرهان، ولك بطبيعة الحال - بل ينبغي لك إن أردت لنفسك تكامل الجانبين - أن تجمع بين النظرتين، فتصبح الفنان حينا والعالم حينا.
هما نظرتان إلى الوجود مختلفتان: نظرة الفنان الذي يمس الكائنات بروحه - إذا صح هذا التعبير - ليقف عندها لأنه ينشدها في ذاتها، ونظرة العالم النظري الذي يقيم بينه وبين الكائنات حاجزا من قوانينه ونظرياته؛ فالجزئية الواحدة تهم العلم من حيث هي مثل يوضح القانون، لكنها تهم الفنان لذاتها.
ولقد أراد الله للإنسان أن تكون له النظرتان معا، فبالنظرة العلمية إلى الأشياء ينتفع، وبالنظرة الفنية ينعم، إلا أن إحدى النظرتين قد تغلب على زيد على حين قد تغلب الأخرى على عمرو، وكذلك قد تسود إحداهما شعبا، وتسود الأخرى شعبا آخر، أو قد تشيع إحداهما في عصر كما تشيع الأخرى في عصر آخر، وإني لأزعم أن نظرة الشرق الأقصى إلى الوجود كانت نظرة الفنان، على حين كانت نظرة اليونان (والغرب بعد ذلك بصفة عامة) نظرة العالم.
صفحة غير معروفة