والذي نسميه بالديانة الكونفوشية إنما هو في حقيقة الأمر ديانة قديمة صبها هذا العظيم في فكر جديد، وأسلوب جديد، ونظام خلقي جديد، ليتخذه بنو وطنه دليلا يهتدون به في سلوكهم، وينهجون على نهجه في سياستهم. فلم يكن كونفوشيوس حالما ولا شاعرا، ولا هو أراد أن يجعل من ديانته عقيدة لاهوتية وكهنوتية؛ إنما وجه همه الأكبر نحو مشكلات الحياة - حياة الفرد وحياة الدولة على السواء - وما أشبهه في ذلك بسقراط الذي شهدته اليونان بعد أن ظهر كونفوشيوس في الصين بقرن كامل؛ ولكن سقراط كان ينظر إلى مشكلات الأخلاق من الجانب النظري، أما كونفوشيوس فلم تكن تعنيه إلا سعادة الأفراد في حياتهم العملية. فأهل الصين من حيث هم أتباع كونفوشيوس، قوم لا دين لهم، إن فهمنا كلمة الدين بمعناها الضيق المحدود؛ لأن الدين بهذا المعنى يعترف بوجود قوة تسيطر على البشر وتشرف على شئونهم، ولكن فيلسوف الصين لم يعترف في تعاليمه بوجود مثل هذه القوة، وإنما حصر نفسه حصرا في الإنسان نفسه، ورسم له خطة السلوك؛ وعلة ذلك أنه ظهر بين قومه في القرن السادس قبل الميلاد، حين أخذ النظام الإقطاعي في الصين يتداعى بناؤه وتنحل روابطه، وأخذت تنشب على إثره حروب أهلية فتاكة قاضية؛ فجاء هذا الرجل رسولا للنظام، يؤمن بضرورة أن تجتمع السلطة في يد واحدة قادرة ماهرة، ما أشبهها بما أطلق عليه «كارليل»
14
اسم «البطل»، وما دعاه «نيتشه»
15
ب «الإنسان الكامل».
16
هذه الحكومة التي يمسك زمامها فرد واحد ممتاز كانت معقد الأمل عند كونفوشيوس؛ وقد كان وزيرا لأحد أمراء الصين، فأحب أن يعلمه الحكمة الخلقية العملية ليعتدل سلوكه، واستمع له الأمير حينا، ثم ضاق به ونفاه، لأنه آثر على وعظه صحبة الغواني الراقصات؛ فأنفق كونفوشيوس خير سنيه مرتحلا من دولة إلى دولة، يعلم الأخلاق حيثما حل، ثم عاد إلى وطنه في سن الشيخوخة ليجمع في الكتب أشتات حكمته.
ويجمع هذه الحكمة الكونفوشية خمسة كتب: كتاب التاريخ، وكتاب التغيرات، وكتاب الشعر، وكتاب الشعائر، وأخبار الربيع والخريف. وليست هذه الكتب بالجديدة في مادتها، إنما هي إنتاج قديم في ثوب جديد، والكتاب الوحيد الذي يعد من إنشاء كونفوشيوس هو «أخبار الربيع والخريف». وهاك مثالا لأدبه:
قال الشيخ: إن الرجل الكامل هو الذي يقيم أخلاقه على الشعور بالواجب، ثم يضيف إلى شعوره ذاك اتزانا وتناسقا في سلوكه؛ وهو يدل على ذلك بما يبديه من روح التضحية، وعليه أن يكمل أخلاقه، فيضيف إلى ذلك كله الصدق والإخلاص، فإن فعل، فهو حقا ذو خلق نبيل.
الإنسان الكامل يبحث عن حاجته في نفسه، والإنسان الأدنى يلتمس حاجته عند الآخرين.
صفحة غير معروفة