ويتنوع الأدب في العهد الديمقراطي بأكثر مما تنوع في العهد القبلي والأوتوقراطي، فتعمل الديمقراطية على ترقية الأدب التمثيلي الذي يصور حياة الفرد، وتوجه أكبر عنايتها إلى تحليل حياة العامة والجمهور، لا حياة الأفذاذ من الأبطال والملوك، ويساعدها على ذلك تجمع الناس في مدن محصورة تسمح بالملاحظات اليومية، والتجارب الاجتماعية وتحليل الصنوف المختلفة من الشخصيات الإنسانية، فالأدب التمثيلي الديمقراطي إن لم يعن بحياة البلاط والحياة الدينية الشعبية عناية المسرحية الأوتوقراطية، فإنه يفوقها في الاهتمام بالطبع البشري والجبلة الإنسانية.
وقد كانت أثينا الجمهورية أولى من أقامت المسارح لتسلية الجمهور وتثقيفه، فارتقى الأدب التمثيلي على يدها، وحذت حذوها الأمم الأوروبية عندما اعتنقت الديمقراطية.
كذلك تطور الشعر تطورا جديدا؛ فأكثر الشعر القبلي تظهر فيه روح القبيلة لا روح الفرد، وقلما تظهر فيه شخصية الشاعر نفسه من حيث شعوره وعواطفه الذاتية. وكان الشعر في العهد الأوتوقراطي ينحو نحو تقديس الأبطال وتمجيد العظماء، ومدح الملوك والأمراء، وشغل الشاعر بذلك عن نفسه. أما في العهد الديمقراطي فقد أحس الشاعر شخصيته، وبانت له عواطف ذاتية مستقلة، من حقها أن تظهر وتصور في شعره.
ويظهر أن الشعر القصصي لم يبلغ في العصر الديمقراطي مبلغه في العصر الأوتوقراطي، ولم يعد الناس يقدرونه تقدير الأولين، لأن الأوضاع الاجتماعية تغيرت، فإذا أراد الفكر الحديث المحلل أن يغذي عاطفته القومية بسير الأولين، فإنه يفضل أن يلجأ إلى النثر التاريخي لا إلى الشعر القصصي، وقد حاول بعض الشعراء المحدثين أن ينظم ملاحم كما فعل ملتن في «الفردوس المفقود»، ولكنها مع فضلها لم تبلغ روعة الملاحم القديمة.
فإذا نحن وصلنا إلى النثر رأينا أنه لم يشهد عظمته في عصر من العصور كما شهدها في عصر الديمقراطية، وإنا - وقد ألفنا منذ الطفولة استعمال النثر الفني الكتابي - ليعسر علينا أن نتصور هذه الحقيقة العجيبة، وهي أن العالم اضطر أن ينتظر آلاف السنين قبل أن يجيء هيرودوت وأمثاله فيرتقوا بالنثر إلى مرتبة النثر الفني، كما مر على الأدب العربي مئات السنين قبل أن يرتقي الجاحظ وأمثاله بنثره الفني.
وبينما تصر الأوتوقراطية على أن الفرد وجد للدولة والحكام، إذا بالديمقراطية تنادي بأن الدولة والحكام هم الذين وجدوا للفرد، فكانت هذه العقيدة هي المشجع الأعظم للاختراع والابتكار في كل نواحي الحياة ومنها الأدب؛ فترى النثر يرقى في كل أنواعه، سواء في ذلك التاريخ السياسي والرسائل والمقالات الأدبية والنثر الفكاهي والنثر الفلسفي، ثم نرى ولادة الجريدة والمجلة.
ونرى الاتجاهات الجديدة في النثر ممثلة في النثر المسرحي، وكتب الرحلات، والنقد الأدبي النثري، والرواية الواقعية، والقصة الغرامية والتاريخية، ونرى - باختصار - النثر يحتل أعظم مكان في عالم الأدب في القرن الحاضر.
ولا يدري إلا الله عم يتمخض العالم من نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية تؤثر في الأدب فتطبعه بطابعه الجديد، وتوجهه الوجهة الملائمة للبيئة الاجتماعية.
الأدب القديم وبدايته
الفصل الأول
صفحة غير معروفة