بسم الله الرحمن الرحيم
توكلت على الله، والحمد لله خير ما افتتح به الكلام وأختتم. وصلى الله على محمد وآله وسلم. قال الشيخ العميد أبو سهل محمد بن الحسن بن علي، ﵁، أما بعد: فإني رأيت أكثر أهل العصر المتحلين بالأدب والمنتمين إليه والشائمين برقه والحائمين حواليه غورًا ونجدًا وقربًا وبعدًا، مقبلين على ديوان أبي الطيب أحمد بن الحسن المتنبي متناظرين عليه متجاذبين طرفيه متخاصمين فيه متوسمين لمعانيه، كما قال هو:
أنامُ ملَء جُفوني عن شواردِها ... ويَسهرُ الخَلْقُ جَرَّاها ويختصمُ
فالشادي يتقلب نحوه بأنفاسه، والمتوجه يبذل كنه الوسع في اقتباسه، والمدرس الماهر قاصر عن ظاهر روايته فكيف عن الغوص على جواهره؟ وكان من الاتفاق أن حفظت في الصبا ديوانه، فقرأته على أبي جعفر محمد بن محمد بن الخليل، وكان يرويه عن علوي عن المتنبي بمعانيه وأغراضه، وذاكرت به حينًا من الدهر من لاقيت من أدباء ذلك العصر، ثم ترامت بي الأحوال إلى (غزنة) ولقيت بها أبا عبد الله الحسين بن إسماعيل التوزي، وكان يحفظه ظاهرًا، ويقوم
1 / 3
بكثير من معانيه مذاكرًا ومناظرًا، ويروي عن المتنبي (العميديات) من ديوانه قراءة عليه بالأهواز، وقرأته عليه به (غزنة) ضابطًا لروايته وحافظًا ما أودعته من معاني أبياته، وكان بيني وبينه معرفة ومودة قبلها بديار (خراسان)، ثم لم أزل أباحث عنه الفضلاء، الفاحص الأدباء، وأطارحه العلماء به والخبراء، وأتأمل ما أجده من الشرح له والتعاليق فيه، فألفيت شرح عقيل لا يلائم العقول، ولا يوافق المروي عنه والمنقول، وشرح الأبيوردي لا يؤبه له ولا يعبأ به، وبعض تعاليق الخوارزمي وتآليف المعتوه البلخي الذي يعرف بالتميمي تميمة لديوانه عن العيون وعوذة له عن سوء الظن، ووجدت كتاب الفسر لأبي الفتح عثمان بن جني، ﵀ النهاية في الإيضاح لإعرابه ولغاته والدلالة بالشواهد على صحة عباراته، فعنيت بتبيين ما يحويه والنظر فيه فعثرت على عثرات في رواياته ومعانيه لا تقال، ولا يطلق بأمثالها اللسان ولا تقال، ويضيق نطاق الإغضاء عن احتمالها، ولا يسع العارف بها الرضا بإغفالها، وكنت أحيانًا أفاتح منها بالشيء بعد الشيء بعض
1 / 4
الأصحاب منبهًا على فساده ومعقبًا له بالمعنى الصحيح السافر عن مراده، ومقيمًا عليهما الحجج الواضحة التي تثني الجاحد عن جحوده، وتصرف المعاند عن عناده لأفهم إلا أن يبتلى بطبع طبع وقريحة قريحة وذهن عليل وخاطر كليل،
لا يفهم التعريف إلا من ألسنة النعال ولا يحسن التثقيف إلا من جانب القذال، فما زالوا بي حتى تصفحت أبيات الفسر لمعانيها، وضربت بالحجة على كل معنى فاسد فيها، ثم بينت صحيحها وأظهرت (ما) فيها، ولم أتعرض لغيرها خلا أبياتًا قليلة القيمة لقصة فيها ظريفة أو نكتة خفيفة، فإن ساعد العمر عطفت على ما أعرض عنه من أبياته فشرحته، وأوضحته كيلا يبقى بيننا له بيت غير مشروح ولا غلق من معانيه غير مفتوح، والله تعالى الموفق للصواب والعمل الثواب، فما التوفيق إلا بالله عليه أتوكل، وإليه أنيب.
1 / 5
قافيةُ الهمزة
قال المتنبي على قافية الهمزة:
(القلبُ أعلمُ يا عذولُ بدائهِ ... وأحقُّ منكَ بجفنهِ وبمائهِ)
فسره أبو الفتح، فقال: أي يصرف الدمع إلى حيث يريد، لأنه مالكه، والهاء في (مائه) تعود على الجفن، ويجوز أن يصرف إلى القلب، وفيه بُعد.
قال الشيخ: هو عندي مشوب الصواب بغيره، لأنه يقول: القلبُ أعلمُ منكَ بدائهِ، وإذا كان أعلم بدائه كان أعلم بعلاجه ودوائه، وهو البكاء الذي يخفف وطأة الأحزان عن القلوب، ويفثأ لوعة الشوق والنزاع إلى المحبوب، فمالك تصده عما فيه شفاؤه بعذلك، فترده عن تعاطيه بجهلك؟ ويوضح هذا المعنى قوله بعده:
(. . . . . . . . . . . . . . . ... وأحقُّ منكَ بجفنهِ وبمائهِ)
1 / 6
والطبيب مل لم يقف على الداء لم يُصب في العلاج والدواء، ولو أراد به أنه يصرف الدمع إلى حيث يريد لقال: أملك يا عذول لدمعه، والهاء في (مائه) تعود على الجفن لا غير، ولا وجه لصرفها إلى القلب في المعنى، والجفن حائل من القلب وإناء، وإن كان جائزًا في العربية، وكان ينظر إلى بيت أبي تمام:
لا تسقني ماَء الملامِ فإنَّني ... صَبٌّ قدِ استعذبتُ ماَء بُكائي
(ما الخِلُّ إلاَّ مَنْ أوَدُّ بقلبهِ ... وَأَرى بطَرفِ لا يرى بسِوائِهِ)
قال أبو الفتح: أي ليس لك خليل إلا نفسك، فلا تلتفت إلى قول أحد، قال: إنني خليلك، أي: قد فسد الناس، كقوله:
1 / 7
خليلُكَ أنتَ لا من قلتَ خِلِّي ... وإن كَثُرَ التَّجمُّلُ والكلامُ
ويجوز أن يكون المعنى: ما الخل إلا من لا فرق بيني وبينه، فإذا وددت فكأني بقلبه أود، وإذا رأيت فكأني بطرفه أرى، أي: إنما يستحق أن أسميه خلًا من كان كذا.
قال الشيخ: وهذا أيضًا مشوب عندي، لأن الفصل من شرحه الأول يبين البيت، ولا يلائمه، فإن قوله:
(ما الخِلُّ إلاَّ مَنْ أوَدُّ بقلبهِ ... . . . . . . . . . . . . . . .)
غيره بلا خلاف.
وقوله: خليلك أنت. . .
نفس المخاطب بلا دفاع، وشتان ما هما، والفصل الثاني أقرب إلى المعنى، وإن كان قاصرًا عن أدائه بجميع أجزائه، فإنه يقول: ما الخل إلا من أود لا فرق بيني وبينه كما فسره غير أنه يريد: ما الخل إلا من يكون باطنه باطني وظاهره ظاهري، فإذا وددت شيئًا فقلبه يوده، وإذا رأيت شيئًا فطرفه يراه ولا يرده، إغراقًا في الوداد وغلوًا في المصافاة والاتحاد وموافقات في نظرات العين وخطرات الفؤاد، والإنسان إذا وافق صديقه بقلبه وفاقًا صادقًا كانت الحواس الخمس التي هي جواسيسه وخدمه تبعًا له في وفاقه ومددًا لمراده في رفاقه. وتمام المعنى أنه يود بقلبه وهو يرى بطرفه، وإذا كان يرى بطرفه، فهو أيضًا يود بقلبه، فإن سبب الود نظر العين، ألا ترى إلى قوله؟
ومَا هيَ إلاَّ نظرةٌ بعدَ نظرةٍ ... إذا نزلت في قلبهِ رحَلَ العَقلُ
وقوله:
يا نظرةً نفتِ الرُّقادَ وغادرت ... في حَدَّ قلبي ما حييتُ فُلولا
كانت منَ الكحلاءِ سُؤلي إنَّما ... أجَلِي تمثَّل في فؤاديَ سُولا
1 / 8
وقوله:
فلو طُرحَت قلوبُ العشقِ فيها ... لما خافت منَ الحَدَقِ الحِسانِ
وقوله، وإن كان في غير الحب:
كَأنِّي عَصَت مُقلتي فيكم ... وَكاتَمتِ القلبَ ما تُبصِرُ
وكأن الجميع ينظر إلى قول الأول:
إنَّ لِلَّهِ في العبادِ منايا ... سَلَّطتها على القُلوبِ العَيونُ
(إنَّ المُعينَ على الصَّبابةِ بالأسَى ... أَولى برحمةِ رَبُها وإِخائِه)
قال أبو الفتح: أي إن المعين على الصب، أي: ذي الصبابة، بالأسى أولى بأن يرحمه ويكون أخاه، إما لأنه هو الذي جنى عليه ما جنى، وإما لأنه هو أعرف الناس بدوائه وأطبهم بدائه، ويجوز أيضًا أن يكون له قوله على الصبابة، أي: مع ما أنا فيه من الصبابة وهذا القول أكشف من الأول، أي: لا معونة لي عنده إلا إيراده عليّ الأسى والحزن، كقولهم:
1 / 9
عتابك السيف، أي: لا عتاب عندك لكن السيف.
قال الشيخ: هذا الشرح أحوج عندي من بيت المتنبي إلى الشرح، ولست أعرف بقوله: وإما لأنه أعرف الناس بدوائه وأطبهم بدائه معنى وفائدة إلى أخر تفسيره لهذا البيت، والشاعر لا يقصد ببيت يقوله غير معنى واحد فما يزاد عليه يدل على الجهل بمراده في إصداره وإيراده عنه. وعندي أن معنى البيت: كف العذل والملامة عن نفسه كيلا يزيد في حزنه وبثه، فيقول: إن المعين على الشوق الذي يؤذيه بالعذل، وهو أسى المشوق أولى بأن يرحمه ويؤاخيه، ويؤيده، قوله بعده:
(مَهلًا فإِنَّ العَذْلَ منْ أسقامهِ ... وَتَرَفُّقًا فَالسَّمْعُ مِن أَعضائهِ)
وهذا قريب من قول ابن الرومي:
فَدَعِ المُحِبَّ منَ الملامةِ إِنَّها ... بئسَ الدَّواَء لموجَعٍ مِقلاقِ
لا تُطفِئنَّ جوىَّ بلومٍ إنَّهُ ... كالرِّيحِ تُغري النَّارّ بالإِحراقِ
وما أكثر ما قيل في هذا المعنى، كقول الحسن بن هانئ، وإن لم يكن في العشق:
دَع عَنَكَ لومي فإنّ اللَّومَ إِغراءُ ... . . . . . . . . . . . . . . .
1 / 10
وكقول أبي فراس:
اللَّومُ للعاشقينَ لُومُ ... لأنَّ خَطبَ الهوى عظيمُ
في نظائر لها تضيق عنها صدور الصحف، ولا تسعها بطون الكتب.
(مَهلًا فَإنَّ العذلَ منْ أسقامهِ ... وترفُّقًا فالسَّمعُ من أعضائهِ)
قال أبو الفتح: أي أرفق برب هذه الصبابة يعني نفسه، فإن العذل أحد أسقامه، وترفق به لأنه كثير الأسقام، فعذلك أحد أسقامه، وترفق به فإن السمع من أعضائه، أي: لا تعنف عليه بالعذل، فيذهب سمعه في جملة أعضائه الذاهبة، فإنك إن لم ترفق به ذهب سمعه، ولم
يسمع لك عذلًا.
قال الشيخ: هذا المعنى عندي مدخول، لأن العذل ليس من جنس الأسقام والسمع غير ذاهب بالعذل، ولم يسمع ذهاب سمع به، ولا أحد قاله. وعندي: أنه يكفه عن العذل، ويقول: لا تعذله، فإن العذل من ضروب أسقامه التي تحل به وتؤلمه، والسمع من أعضائه التي تؤلم السقم، فكما أن الصداع يؤلم رأسه، والرمد يؤلم عينه، فكذلك سائر أعضائه في سائر الأجسام تؤلمها سائر الأسقام.
1 / 11
(فَأتيتَ مِن فوقِ الزَّمانِ وتحتهِ ... مُتَصلْصِلًا وأمامهِ وورائِهِ)
قال أبو الفتح: أي أحطت بالزمان الذي هو أم النوائب، ولم تعبأ بالنوائب.
قال الشيخ: الملوك لا تُمدح بأن لا تعبأ بالنوائب، سيما إذا كان المادح مثل المتنبي والممدوح مثل سيف الدولة، وعندي يقول: فأتيت الزمان ضابطًا وباهرًا وقاهرًا له من جوانبه علوًا وسُفلًا وأمامًا ووراء، حتى لم يتفرغ عن الشغل بنفسه إلى إنشاء النوائب لأهله، فانقطعت عني وعن غيري.
وقال في قصيدة أولها:
(أَمِنَ ازديارَكِ في الدُّجى الرُّقباءُ ... . . . . . . . . . . . . . . .)
(أسَفي على أسَفي الذي دلَّهْتِني ... عن علمِهِ فبهِ عَليَّ خَفاءُ)
1 / 12
قال أبو الفتح: أي أنا أحزن لذهاب عقلي حتى أني قد خفي عليّ حزني، فإنما ذلك لما لقيت فيكِ من الجهد.
قال الشيخ: ذهاب العقل هاهنا قلق، وإن كان في معناه طرف منه، وإن الرجل يقول: أسفي على أسفي لا على ذهاب عقلي، والأسف: الحزن على الفائت، فهو يقول: أسفي على الذي حيرتني عن معرفته بأنواع الأحزان والهموم في حاضر الأحوال، فلست أعرفه ولا أتأسف على ما فاتني من وصالك ونوالك وإحسانك وإجمالك وإنعامك وإفضالك لما ألقى منك في العاجل من الهم الناصب والبلاء الواصب، ومن شغل اليوم بنفسه لم يتفرغ للتأسف على ما فاته في أمسه، فكأنه ينظر إلى قول الأول:
بَلَى إِنَّها تَعفو الكُلومُ وَإنَّما ... نُوَكَّلُ بالأدنى وإن جَلَّ ما يمضي
(نَفَذَتْ عَليَّ السَّابريَّ ورُبَّما ... تَندَقُّ فيهِ الصَّعدةُ السَّمراءُ)
قال أبو الفتح: السابري يعني به الثوب الرقيق، وكذلك كل ثوب رقيق عندهم سابري.
1 / 13
ومعنى البيت: إن عينك نفذت ثوبي إليّ فتمثلت في حشاي، فإن قيل: كيف تندق الصعدة في الثوب الرقيق؟ قيل: معناه إذا طُعن بقناة اندقت القناة دون العمل فيه، فكأن ثوبه درع عليه ما كان جسمه من تحته، ويجوز أن يكون عنى بالسابري الدرع، فيكون على هذا: نفذت نظرتك الدرع إلى قلبي ولكلا القولين مذهب.
قال الشيخ، قد تعسف فيه وما أنصف، وإنما هو الدرع هاهنا لا غير كما قال أخيرًا. ويجوز أن يكون عني عنى بالسابري: الدرع، أي نفذت نظرتك الدرع إلى قلبي، والأول فاسد مدخول، وهذا واضح مقبول.
(مَنْ نفعُه في أنْ يُهاجَ وَضَرَّهُ ... في تَركهِ لو يَفطُنُ الأعداءُ)
قال أبو الفتح: إذا هيج انتُفع بذلك شوقًا إلى الكفاح ومقارعة الأعداء، وإذا تُرك من ذلك، ولم يوجد سبيل إليه استُضر به، وهو كقوله أيضًا:
1 / 14
ذَريني والفلاةَ بلا دليلٍ ... ووجهي والهجيرَ بِلا لِثامِ
فَإنَّي أستريحُ بذا وهذا ... وأَتعَبُ بِالإنِاخَةِ والمُقامِ
وكقوله:
قُحٍّ يَكادُ صَهيلُ الجُردِ يَقذِفهُ ... عَن سَرجِهِ مَرَحًا بِالعِزِّ أو طَرَبا
ويجوز أن يكون أراد أنه إذا هيج استباح حريم أعدائه، وأخذ أموالهم، فانتفع به، وإذا ترك من ذلك قلت ذات يده فاستضر به، ويؤكد أيضًا هذا قوله:
ولاَ مَلكا سِوى مُلكِ الأعادي ... وَلا وَرِثًا سِوى مَن يَقتُلانِ
وهذا كقول أخت الوليد بن طريف:
فَتىً لا يُحبُّ الزَّادَ إلاَّ مِنَ التُّقى ... ولا المالَ إلاَّ مِن قنًا وَسيُوفِ
قال الشيخ: القول الأول فاسد من حيث لا ينتفع بالهيج للشوق إلى الحرب بحال، ولا يستضر بإعراض عن هذا الشوق وإضرابه إلا أن يقترن به غيره، والمعنى كما قال في أبي العشائر:
يَضرِبُ هامَ الكُماةِ ثُمَّ لهُ ... كَسبُ الذي يَكسِبونَ بِالمَلَقِ
1 / 15
وكما قال في سيف الدولة:
حَتى إذا فَنِيَ التُّراثُ سَوى العُلى ... قَصَدَ العُداةَ مِن القَنا بِطِوالهِ
يقول: إذا هيج انتفع بأموال الأعداء وأزداد به في الثراء، وإذا ترك استضر بتركه لخروجه بالعطاء عن ملكه وتعذر العوض من مال العداة بعد تفرق ماله في العفاة، وشرحه فيما يليه:
فَالسِّلمُ يَكسرُ من جَناحَي مالهِ ... . . . . . . . . . . . . . . .
(مُتَفرقُ الطَّعمينِ مُجتمِعُ القُوى ... فَكأنَّهُ السَّراءُ والضَّراءُ)
قال أبو الفتح: قوله متفرق الطعمين، يقول: فيه حلاوة لأصدقائه ومرارة لأعدائه، وقوله: مجتمع القوى، أي: هو مع ذلك إنسان واحد، وقواه مجتمعة غير متباينة، وهذا كقول الهذلي:
حُلوٌ ومُرٌّ كَعِطفِ القِدحِ مِرَّتُهُ ... بِكُلِّ إنيٍ حَذاهُ اللَّيلُ ينتَعِلُ
1 / 16
وقال تأبط شرًا:
وَلَهُ الطعَّمانِ أريٌ وَشريٌ ... وَكلا الطعَّمينِ قد ذاقَ كُلُّ
وقال أبو نؤاس:
. . . . . . . . . . . . . . . ... كالدَّهرِ فيه شراسَةٌ وَلِيانُ
يقول: فكأنه مخلوق من السراء والضراء لكثرة ما يعتادهما ويأتيهما، وهذا كقول الله
تعالى: (خُلِقَ الإنِسانُ مِن عَجَلٍ).
قال الشيخ: في هذا الفصل من الفساد ما يعيا على التعداد، أوله قوله: أي هو مع ذلك إنسان واحد يؤدي لو كان الممدوح شخصين ونفسين لأم شخوصًا ونفوسًا في جلد واحد، وما يمنعه من اجتماع قواه له، وهو إنسان واحد؟ والناس كلهم بل الحيوان كلها بهذه الصفة، تجتمع قوى كل حي فيه عند بلوغه. قوله: مجتمع القوى، أي: بالغ أشده يعمل ما يعمل على بصيرة دون جهل الصبا وسكر الشبيبة، فطعماه في مكانيهما على الاستحقاق، يحلو حيث يجب، ويمر حيث يجب، وقوله: مجتمعة غير متباينة أردأ مما مضى، فإن قواه لو كانت متباينة كان ميتًا لا حيًا. والبيت الذي نحله الشنفري في مرثية تأبط شرًا لأبن أخته أو لخلف الأحمر على لسانه كما قيل يرثي به تأبط شرًا. و
1 / 17
له قطعة قرأتها في ديوانه، يرثي بها الشنفري، وديوانه ناطق بها، وأولها:
على الشنفري ساري الغمامِ ورائحٌ ... غزيرُ الكلى أو صَيِّبُ الماءِ باكرُ
وفيها:
فلا يَبعدَنَّ الشَّنفرَي وسِلاحهُ ال ... حديدُ وشَدٌّ خَطوُهُ مُتواتِرُ
وكتاب (مقاتل الفرسان) لأبي عبيدة يوضح لك ما ذكرناه، ويبسط ما اختصرناه، وقوله: فكأنه مخلوق من السراء والضراء لكثرة ما يعتادهما ويأتيهما فاسد، وأنهما شرح الطعمين، أي: كأنه السراء في الحلاوة والضراء في المرارة، كما قال:
دانٍ بعيدٍ مُحبٍّ مُبغِضٍ بَهِجً ... أغَرَّ حُلوٍ مُمِرٍّ لَيِّنٍ شرِسِ
وكما قال:
مُمقِرٌ مُرٌّ على أعدائِهِ ... وعًلى الأدنينَ حُلوٌ كالعَسَل
وليس يقول: حلو منها حتى حسن به تشبيهه بقوله تعالى: (خُلِقَ الإنسانُ مِن عَجَلٍ).
1 / 18
(احمَد عُفاتَكَ لا فُجِعتَ بِفقدِهِم ... فَلتَركُ ما لم يَأخذُوا إعطاءُ)
قال أبو الفتح: قوله لا فجعت بفقدهم، حشو في غاية الملاحة والظرف وهو يحتمل أمرين أحدهما، وهو أكشفهما وأقربهما إلى ظاهر البيت، أنه دعا بأن لا يفقدهم، يقول: لا عدمت القصاد والطلاب إذ كانوا لا يقصدون إلا ذا ملك وسروٍ وثروة.
قال الشيخ: قوله لما ذكر من انتفاعه كلام مجهول غير معلوم، ولست أرى ذكرًا لانتفاعه بهم قبله وبعده، والثاني فاسد لأن المستميحين يقصدون هؤلاء وغيرهم، ومعناه أنه يقول: لا رزئتهم ولا أصبت المصيبة بفقدهم، فإن الرزء والفجيعة عنده فقد العفاة والمجتدين لا فقد الأولاد والأعزة والأموال كما يقول في فاتك:
لا يَعرفُ الرَّزَء في مالٍ ولا ولَدٍ ... إلاَّ إذا حَفَزَ الضِّيفانَ تَرحالُ
(لا تَكثُرُ الأموالُ كَثرةَ قِلةٍ ... إلاَّ إذا شَقِيتْ بِكَ الأحياءُ)
1 / 19
قال أبو الفتح: قوله كثرة قلة، يقول: إنما تكثر الأموات إذا قل الأحياء، فكثرتهم كأنها في الحقيقة قلة، وقوله: شقيت بك، يريد شقيت بفقدك، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وإنما تشقى به الأحياء لمفارقتهم إياه.
قال الشيخ: قوله شقيت بفقدك الأحياء مدخول من القول فاسد، فإنه ما جرى في الرسم أن ينعي المادح نفس الممدوح إليه، ولا أن يمدحه بفقده وموته، وهب أن الأحياء تشقى به
لمطارقتهم إياه، فكيف تكثر به الأموات؟ أيموتون بموته أم تضرب أعناقهم على قبره؟ أم كيف؟ هذا محال من الوجوه كلها كما ترى. ومعناه: لا تكثر الأموات كثرة هي في الحقيقة قلة، لأن كثرة الأموات من قلة الأحياء، فهي قلة في الحقيقة، لأن الاعتبار بالحي دون الميت والفائدة فيه لا في الميت، إلا إذا شقيت بعداوتك الأحياء حتى تقتلهم، فتكثر الأموات حينئذ بقلة الأحياء، والدليل عليه ما يتلوه، وهو:
والقلبُ لا ينشَقُّ عمَّا تحتَهُ ... حتَّى تحُلَّ بهِ لكَ الشَّحناءُ
أي: والقلب لا ينشق عما فيه حتى تحل بالقلب لك الشحناء والبغض، فحينئذ ينشق القلب.
1 / 20
(فَغَدوتَ واسمُكَ فيهِ غيرُ مُشاركٍ ... والناسُ فيما في يديكَ سَواءُ)
قال أبو الفتح: أي لم يشارك اسمك فيك، لأن لا يكون للإنسان أكثر من أسم واحد، زيد وعمرو ونحو ذلك، والناس في مالك سواء غنيهم وفقيرهم وقريبهم وبعيدهم، فقد استووا كلهم في آلائك ومننك.
قال الشيخ: لست أرى مدحًا أن اسمك فيك غير مشارك من حيث أن له اسمًا واحدًا لا اسمين، فإن
العالمين فيه شرع، وعندي أنه يقول: واسمك غير مشارك، أي: مع ما جمعته من محاسنك ومعاليك ومآثرك التي تفرقت بها عن العالمين، واستأثرت بها دون الناس أجمعين، فلا شريك له فيك إذ لا سمي لك يوازيك في مفاخرك ويضاهيك، فالمسمون باسمك كثير، وليس لك في خصائص خصالك وغرائب أفعالك منهم نظير، فاسمك إذًا مختص منك بشخص لا شبيه لك في معاليه غير مشارك فيك بشخص في معانيه، والناس شركاؤك في ملكك، وطبقاتهم فيه سواء معك حكمهم فيه كحكمك وأمرهم فيه أمرك.
1 / 21
(لو لَم تكُن مِن ذا الورى اللَّذْ منكَ هو ... عَقِمتْ بِمَولدِ نْسلِها حَوَّاءُ)
قال أبو الفتح: يقول لو لم تكن من ذا الورى الذي كأنه منك، لأنك جماله وشرفه وأنفس أهله لكانت حواء في حكم العقيم التي لم تلد، ولكن بك صار لها ولد، ولولا أنت لصار ولدها كلا ولد.
قال الشيخ: ليس في البيت تشبيه بكأنه ولا بما معناه، ولو لم يكن هذا الممدوح لما كانت حواء في حكم العقيم، فإنها إذا ولدت لم تكن عقيمًا، ومعناه إنه يقول: لو لم تكن من ذا
الورى الذي منك هو، لأنهم يتقلبون في نعمك وأفضالك، ويتعيشون بجاهك ومالك، فهم منك وبك، لأنهم منك نشئوا وبإحسانك نفذوا وفي نعمائك تربوا عقمت حواء، فلم تكن تلد، إذ لم يكن لنسلها معنى، وفيهم خير وفائدة، لو لم تكن منهم، كقوله:
ولولا كَونُكم في النَّاسِ كانوا ... هُذاءً كالكلامِ بلا معاني
1 / 22