وبعد ذلك أردت قطع الحديث لأنه من المعلوم لا يستطيع كل إنسان أن يتحمل عندما يدوسون رأسه بالأرجل، ولكن خطر لي سؤال أردت أن أسأله إياه، فقلت له: هل تستطيع أن تعلمني رأيك بشأن العلم؟
فأجاب بعد أن نظر في ساعته وجعل يتلاهى بسلسلتها الذهبية: نعم لا بأس، فإني أخبرك بما أعرفه عما سألت، فالعلم على رأيي هو الكتب، فإذا كان مؤلفوها يكتبون فيها شيئا حميدا حسنا عن أميركا فهي كتب نافعة مفيدة، والعكس بالعكس، ولكن قلما يلتفت الكتاب في هذه الأيام إلى تسطير الحقائق وتقرير الصدق، وأنا واثق من أن جماعة الكتاب والشعراء قوم فقراء وإيرادهم قليل جدا، ولا عجب في ذلك فإن الأمة المنهمكة في الأعمال ليس لها وقت للمطالعة، وعلى ذلك تصادف مطبوعاتها كسادا عظيما يتحمل منه مؤلفوها أنواع الفاقة وصنوف الحاجة، وفوق هذا وذاك فإن الشعراء قوم أشرار وبعدل يحجم الناس عن ابتياع تآليفهم؛ ولذلك فإن من رأيي أنه يجب على الحكومة أن تدفع للكتاب مبالغ متوفرة لأن الإنسان متى كان شبعان غير محتاج إلى شيء يكون لين العريكة حميد الصفات، وقلما يميل إلى الشر في مثل هذه الحالة، ولذلك أقول: إنه إذا كانت بلادنا في حاجة إلى الكتب المفيدة ينبغي على الحكومة أن تؤجر عددا عظيما من الشعراء والكتاب وتدفع لهم الأجور الكبيرة وتكلفهم بوضع الكتب ونظم القصائد في تعداد مآثر الأميركيين ووصفهم بأعظم الصفات المجيدة، وكذلك وصف أميركا بأنها أحسن بقعة في العالم، وأنها مهد المدنية ومبهط العمران وأرض الحرية وما شابه ذلك، وإذ ذاك فقط تتوفر لدينا الكتب النافعة المفيدة. فقلت له: إنك ضيقت كثيرا في تعريف العلم!
فأجاب: وأزيد على ذلك أن المعلمين والفلاسفة يدخلون ضمن العلم، وقل مثل ذلك عن كبار الأساتذة والقابلات وأطباء الأسنان والمحامين والأطباء والمهندسين وكلهم لا غنى للناس عنهم، ويجب عليهم أن ينفعوا الناس ويرشدوهم إلى ما يفيدهم. ولكن معلم ابنتي قال لي مرة: إنه توجد علوم اشتراكية فلم يعجبني قوله؛ لأني أظن أن مثل هذه العلوم مضرة ضررا كبيرا؛ لأن العلم النافع لا يخرج الاشتراكيين وينبتهم، كما أن العالم الاشتراكي لا يستطيع وضع كتاب نافع مفيد، ولا يستطيع إبراز العلوم النافعة إلا الرجل العاقل الذي يحب وطنه مثل أديسون مثلا مخترع الفنوغراف والصور المتحركة (سينما توغراف) لما فيها من الفائدة الفكاهية للأهالي، وأزيدك إيضاحا: إن كثرة الكتب لا فائدة منها، ومن رأيي أنه لا يجوز للناس مطالعة الكتب التي تثقف العقول وتهيج الأفكار وتولد الظنون والشكوك، وكل شيء في هذه الحياة يجري في مجراه الطبيعي ولا لزوم لإدخال الكتب في الأعمال وتشويش أفكار العمال.
ولما قال ذلك نهضت، فخاطبني قائلا: أراك تريد الخروج.
فأجبته بالإيجاب، وقلت له: إنني أرجوك كثيرا أن تعلمني شيئا أميل إلى معرفته، وهو ما الفائدة التي يجنيها الإنسان من إحرازه الملايين؟
فأجاب: إن ذلك عادة راسخة في الجسم، وكلما زادت ثروة الإنسان يسعى في زيادتها، كما أن العادة المستأصلة في جسم الإنسان تنمو مع نموه.
فأطرقت مليا ووجهت إليه آخر سؤال وهو: فإذن على رأيك أن المتشردين ومدخني الأفيون والسكيرين كأصحاب الملايين سواء بسواء، ولقد ظهر لي أن استنتاجي هذا كدره، فأجابني بصرامة قائلا: إنك يا صاح عديم التربية مجرد عن الأخلاق الطيبة.
أستودعك الله يا صاح!
فسار معي مشيعا حتى الباب الخارجي، وكانت أمام منزله ساحة كبيرة مغطاة بالعشب الأخضر الذي ينمو فيها، فسرت عليه وكان فؤادي يخفق سرورا؛ لأنه خطر على بالي فكر: وهو أني لا أعود أرى هذا الرجل.
وفيما كنت سائرا سمعت رجلا يدعوني باسمي، فالتفت فإذا به واقف أمام الباب ينظر إلي فقلت له: ماذا تريد مني؟
صفحة غير معروفة