رجل بدين له لحية بيضاء طويلة يعبر الشارع في تمهل، يرفل في جلباب أبيض متسع، وعمامة جميلة ملتفة بإحكام على رأسه، يحمل مسبحة في يمناه تجري حبيباتها بين أصابعه المكتنزة في رتابه، يتضخم بعطر فاغم غمره عبيره وغطى على رائحة البول المحيطة به لحين، رجل نحيل يضع صحيفة مطوية تحت إبطه، ويحمل كيسا يحتوي على خضروات مختلفة، يبدو حزينا وهو يحملق في الأرض إذ يسير بتمهل كأنما يساق لمنصة إعدام، فتاة شابة تتحدث في هاتفها المحمول بعصبية، شاب أنيق يستعرض بضاعة فرشها أحدهم على ملاءة في الأرض، باعة متجولون يصرخون بما يمتلكونه، «برد برد!» «والكيلو جنيه ... والكيلو جنيه!» شاب يقود طفلا، امرأة تحمل أكياسا ملونة كثيرة ممتلئة، رجل آخر، وآخر، وآخر، وآخر، خلق كثير، عشرات الوجوه عبرت أمامه في دقائق معدودة، وجوه مختلفة، متباينة السحنات، والألوان، والتعابير، جمع بينهم شيء واحد، أن أحدا منهم لم يعره انتباها!
تتحرك أمعاؤه من جديد، تذكره بانتهاء وقت الراحة. «ورنش ... ورنش!»
يهز صفيحه المعدني مجددا وهو يسري بين أقدام الناس، تتقاذفه أمواجهم تترى حتى انتهى إلى جوار المسجد الكبير، وضع بضاعته بجواره وجلس على حوض الوضوء، قرب فمه من النافورة وراح يعب الماء.
سمع صوتا زاعقا من خلفه، التفت مذعورا، داهمه إمام المسجد، يشبه الرجل البدين الذي رآه قبل ساعة، كلاهما يرتدي جلبابا أبيض اللون ناصعه، ويحمل مسبحة جميلة، وعلى جبينه علامة صلاحه في الدارين.
انتهره: «يلا غور من هنا!»
اختطف كيسه القماشي وهرول مبتعدا، سمع الشيخ يدمدم من خلفه اتهاما جازما بنيته سرقة أحذية المصلين، انسل من بين أفواج المصلين الداخلين للمسجد، وتنفس الصعداء عندما أدرك أنه أفلت من قبضة الشيخ الغاضب.
رفع مأموم المسجد عقيرته صادحا بالأذان: «الله أكبر ... الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة.» «ورنش ... ورنش!»
يقف بجوار المسجد في الخارج، يهز صفيحه مجددا وهو يرمق العابرين بأعين متوسلة.
لا أحد يلتفت إليه، كلهم يعبرونه صامتين، ضاحكين، غاضبين، هادئين، لكنهم يعبرونه دون أن يعيروه أدنى انتباه! «ورنش ... ورنش!»
بطنه تصرخ في احتجاج، فوضع يده على بطنه حتى يسكتها، رفع رأسه للسماء، بدأت السحب تكتسي شيئا من الحمرة، خف الغيظ هونا ما، وانطلقت النسمات ترتع بين الوجوه العابسة هنا وهناك. «اشتغلت حاجة الليلة يا وليدي؟!»
صفحة غير معروفة