تم العقد في الموعد المضروب، وانتقلت رجاء وولداها في مساء اليوم نفسه إلى منزل السيد شحاتة بالزمالك. أما عزيز، فقضى ليله في بيت قريب لأبيه، ومن حسن حظه أن قرار تعيينه معيدا في كلية الآداب أبلغ إليه بعد أيام قلائل. وزاده الحظ مواتاة، أن بعثت حكومة العراق تطلب إلى مصر أساتذة ومدرسين، فسعى عزيز سعيه، فانتدب بإحدى هذه الوظائف. وبعد أسابيع، سافر إلى بغداد، من غير أن يرى أمه، ليتولى عمله في عاصمة الرشيد. وبذلك بر بإنذار أمه أنه لن يراها إذا تزوجت بعد أبيه!
انتقلت رجاء إلى منزلها الجديد، وكان هذا المنزل أشبه بالقصر في بنائه، وإن لم يكن شبيها بالقصر في فسحة أرجائه. وقد شاده شحاتة من سنين قليلة، بعد أن قضى عمره في الكفاح والحرمان، يسكن بيتا قديما بحي السكاكيني، ويخرج منه كل صباح مبكرا إلى محل تجارته، يقضي فيه النهار بطوله، فإذا أمسى عاد إلى بيته، وقلما يخرج منه إلا لعمله. فلما قارب الستين، وكان الله قد وسع بفضل الحظ في رزقه، رأى من حق نفسه وزوجه وولده، أن يعيش ما بقي من سني حياته، في سعة تتفق مع ثرائه، وتعوض عليه كفاحه وحرمانه، وتسمو به فوق ما كان الناس يلصقونه به من شح وتلاعب.
وقد أثار موقف عزيز من أمه في ذلك اليوم غضبها منه، وإن لم يغير قلبها عليه. وأدى ذلك، منذ انتقلت إلى بيتها الجديد، إلى أن تهب زوجها كل نفسها، وأن تطمع في أن يكون له منها بعد تسعة أشهر ولد، فقد مست كلمات عزيز صميم كرامتها، فأثارتها بكبرياء هذا الشاب الذي ظن نفسه رجلا، ونسي أنها أمه، وأنها أكثر منه تجربة وحكمة، وأبعد منه نظرا، وأدق منه للأمور تقديرا. لذلك لم تحجب عن شحاتة شيئا عن نفسها، غضبا من هذا الشاب، الذي لم يرع حق أمومتها، وما أوصى الله به الأبناء إحسانا بالوالدين!
وانقضت أيام وأسابيع، وبدأت رجاء تحس الفرق الشاسع بين زوجها الأول وزوجها الثاني. ما أجمل المنزل الذي تعيش اليوم فيه بالقياس إلى الطابق الذي كان سكنها مع زوجها الأول! وهذه السيارة الفخمة، التي تنتظرها كل صباح، لتخرج بها إلى حيث شاءت، لم يكن لها سيارة من طرازها في تلك الأيام، وحساباتها المفتوحة في المتاجر تسمح لها بما تشاء من بذخ وترف. لكنها لا تشعر مع ذلك بالسعادة النفسية التي كانت تشعر بها من قبل، لقد كان غذاؤها المادي يومذاك أقل دسامة من الغذاء المطروح اليوم أمامها وتحت قدميها ... لكنه كان غذاء كافيا، يجعلها تقف مع ذوات البذخ والترف على مستوى واحد. ثم كان لها غذاء آخر، وليس لذوات البذخ والترف حظ منه: كان لها زوجها الذي يفيض عليها من عقله وقلبه نورا ومحبة يرتفعان بها إلى سماء العاطفة، وكان لها من مجد هذا الزوج ما يحيطها بجلال، ينطفئ دون لألائه بريق الماس وتألق الجواهر؛ لأنها كانت ترى في أعين الذين ينظرون إليها، أنها شريكة في هذا المجد، وصاحبة فضل فيه!
أما زوجها الثاني، فكانت تشعر إلى جواره، بأنه تاجر في عواطفه، كما أنه تاجر في مهنته. كان يريدها دائما أن تشعر بأنه يبيعها شيئا مقابل شيء ... يبيعها رخاءها ورخاء ولديها، لتبيعه حبها ووجودها. كانت الحياة في نظره أخذا وعطاء، لا يهب فيها أحد لأحد شيئا من نفسه ولا من قلبه دون مقابل!
لكن الأيام أقنعتها بعد قليل أنها يجب أن تذعن لحظها، فهي حامل، وبعد أشهر ستكون شريكة شحاتة في الطفل الذي يرزقانه.
والطفل قيد، إن يكن من ذهب، فهو على كل حال، قيد يربط أبويه يدا إلى يد، وقلبا إلى قلب، لتنصب كل عواطفهما على هذا الصغير البريء. والأم أحرص على هذا القيد الذهبي، تسخر به الأب لولدها. والجنين الذي تحمله رجاء في أحشائها يناديها من كنه، لتسكت كل حفيظة على زوجها، من أجل هذه العلقة التي تتكون إنسانا.
لذلك كانت تبدي لزوجها التاجر ما لم تكن تبطن، في انتظار اليوم الذي يصبح فيه هذا الرجل المعتز بماله خادما لطفلها، يوم تعتز هي بمولده.
وكانت رجاء من زوجها في موقف أشد حرجا من موقف أي حامل غيرها. فمنذ عرفت أن عزيزا سافر إلى العراق، بدأت الهواجس تساورها بشأنه. إنه هجر وطنه غضبا منها، لأنها تزوجت بعد أبيه. ترى ما عسى تكون حاله هناك في هذه الغربة التي فرضها على نفسه بسببها؟ أهو مطمئن لأنه يتناول ببغداد مرتبا مضاعفا؟ أم يعذبه الحنين إلى وطنه والشوق لإخوته؟ أم أنه نسي الوطن والإخوة والأم، وأغرق همه في بحر من اللهو والشراب، أو في أحضان فاجرة تعبث به، ولا ترعى في شبابه إلا ولا ذمة؟ وهل تراه يجيبها إذا كتبت له حتى تطمئن على أحواله؟ ألا فليله ما شاء، وليعبث ما طاب له العبث، على أن يكون في صحة وطمأنينة!
وتعاقبت الأشهر، وأنجبت رجاء بنتا، ظريفة ظرفها، رقيقة رقتها. فملكت بها قلب شحاتة، أكثر مما ملكته بنفسها وحواسها. فقد كان الرجل مشوقا إلى بنت تكون أختا لابنه من زوجه الأولى، تؤنس رقتها ويؤنس شبابها شيخوخته وكهولة أمها!
صفحة غير معروفة