عن «ماري سيرز»
لويز
رأيت لويز لأول مرة في إحدى قرى «أريزونا» على حدود المكسيك، وكانت فتاة طويلة القامة ممتلئة الجسم، سمراء اللون، جميلة الوجه. كانت لويز محط أنظار زائري مسرح «جو» المسمى بالتمثال الذهبي، ومع وجود لويز في ذلك الوسط إلا أنها احتفظت بعفتها وطهارتها.
كانت للويز قصة، وقد عرفت ذلك من أول مرة رأيتها؛ فقد كان ظاهرا عليها أنها ليست من الوسط الذي يؤم مسرح التمثال الذهبي. وبالطبع لكل إنسان قصة، غير أنه كان يخيل لي دائما أن قصة لويز قصة عميقة. وكنت كلما رأيتها مرة بعد مرة ازددت شوقا لاستماع قصتها، وأخيرا تمكنت من ذلك في ليلة كانت إلى جانبي بالمسرح، وقد شربت هي فيها أكثر من اللازم.
ويمكنك أن تقول إنه القضاء والقدر هو الذي ساق لويز إلى مسرح التمثال الذهبي، فقد وجدت نفسها في ولاية أريزونا المعدنية، وليس هناك من وسيلة للتعيش إلا الاشتغال في المناجم. ولما كانت مضطرة أن تسعى وراء رزقها، دخلت في مسرح التمثال الذهبي حيث قدم لها «جو» مركزا لائقا، وكانت لا تشرب مطلقا، وترفض كل دعوة، حتى إن جو نفسه اضطر أن يحترمها، ولكنه كان مغتاظا منها؛ إذ لم يكن متعودا من الفتيات الأخريات هذه المعاملة الشاذة وهذا التمنع، وكان يكره هذه السخافات على حد قوله! والحقيقة أنه ما كان يجرأ أن يدع لويز تفلت من بين يديه؛ إذ إنها كانت عماد مسرح التمثال الذهبي. ولولا ذلك السبب لطردها من زمان بعيد. تعاقبت الأيام على هذه الحالة، وكانت لويز تجد في العمل حتى تحتفظ بمركزها على المسرح، وقد بدأت تقتصد من مرتبها على أمل أن ترحل بعد مدة قصيرة إلى قرية أخرى أكبر من هذه تبحث فيها عن عمل أشرف من عملها وتترك مسرح التمثال يهوي إلى الحضيض ويفقد شهرته.
ولكن حدث أن وصلت القرية بعثة من الشبان المهندسين للبحث عن مكان صالح لحفر منجم. وقد كانوا موفدين لهذا الغرض من قبل إحدى الشركات، وكان العمل بسيطا في حد ذاته، ولم يكن في المدينة من وسائل اللهو والتسلية وقضاء أوقات الفراغ غير مسرح التمثال الذهبي. فكانوا يؤمونه يوميا، وقد كثر ترددهم عليه حين رأوا لويز، وكان بينهم مهندس اسمه روبي يصحبه صديق له اسمه جيمي، لم يتركا لويز لحظة واحدة من أول ليلة وقع نظرهما عليها، فكانا يذهبان للمسرح كل ليلة، ولم يمض وقت طويل حتى عرف جيمي بالعلاقات التي نشأت بين لويز وصديقه روبي؛ فتنحى عن طريقهما، ولم يشأ أن يزاحم صديقه في غرامه، وبذلك تصرف تصرف الصديق المخلص ... وازدادت العلاقات ارتباطا بين روبي ولويز ... ولكن أخيرا كم كان حزنهما شديدا حين أتى وقت الفراق؛ فقد كان على روبي أن يرجع إلى المدينة ليقدم تقريره عما رآه، ولكنه وعدها أن سيرجع للقرية ثانية لكي يأخذها معه إلى المدينة ليتزوجها، وقد سرت لويز بهذا الوعد ووثقت من صدقه؛ إذ إنها كانت على يقين من حب روبي لها.
هجرت لويز «جو» ومسرح التمثال الذهبي، وذهبت عند سيدة كبيرة السن رقيقة القلب، هي المس فلين، وسكنت عندها، وكانت تصرف من نقودها التي اقتصدتها، وكانت تمضي وقتها في الخياطة؛ إذ إنها رأت أنه يجب أن تخيط لنفسها ثوبا لا تخجل من أن يراها روبي به، وقد أتمته أخيرا رغم أنه كلفها كثيرا من المال.
وكان المال ينفد من يدها شيئا فشيئا، وليس من دخل يأتيها. ومع أن الأمر كان جديا لا معنى للهزل فيه، فمن قريب ينتهي المال، إلا أنها كانت سعيدة جدا سعادة الأمل! وكانت في بعض الأحيان تخرج من حقيبتها لباس الرقص القديم، وإذ تتأمله تضحك ضحك الاستهزاء، وهي تنظر إلى المستقبل بعين مطمئنة، وقد عزمت أن تحتفظ بهذا اللباس، ليس لقيمته بل لأنه كان واسطة تعرفها بروبي، كانت خطاباته تصلها بانتظام.
وحدث أن انقطعت مرة واحدة في يوم من الأيام، وقد تعجبت هي من ذلك، غير أنها ظنت أنه في طريقه إليها وأنه سوف يفاجئها بحضوره، وقد أملت أن يكون تعليلها هذا هو الحقيقة، فقد كانت تحبه بملء جوارحها، وقد طالت مدة فراقه عنها. ولأن المال كان قد قارب النفاد كانت تقاسي آلاما كثيرة؛ فقد استعطفت مس فلين أن تنتظر قليلا على أجرة الغرفة. وكانت مس فلين طيبة القلب فرضيت أن تنتظر، إلا أن لويز كانت تعلم حق العلم أن هذه السيدة في حاجة ماسة للدريهمات القليلة التي تأتيها من إيجار الغرفة. واحتارت لويز: أي طريق تسلك؟ وماذا تصنع؟ وزد على ذلك أنه لم تصلها أي كلمة تشجيع من روبي، ولم يرد على كل رسائلها الأخيرة، وقد خافت أن يكون مريضا أو أصابه ضر ...
وحدث في يوم وهي راجعة من البوستة أن رأت جيمي، جيمي صديق روبي! فما دام جيمي بالمدينة إذن فروبي بها أيضا! وها هو قد فاجأها بحضوره كما ظنت أولا، ويجب أن يكون الآن في طريقه إلى غرفتها، وقد كادت تلقي بنفسها بين ذراعي جيمي من سرورها، وصاحت صيحة فرح، وأخيرا سكتت وأظلمت الدنيا في عينيها، وشعرت أنها ستسقط على الأرض، عندما أخبرها جيمي: «أن روبي ليس في المدينة، وأنه لا ينوي الحضور بتاتا؛ فقد تزوج من فتاة في بلده.» وإذ خرجت هذه الكلمات من فم جيمي ظنت أنه أخرجها مرغما على أمره، ولكنها تأكدت منه أخيرا أنها الحقيقة؛ فرجعت إلى غرفتها التي حوت كل آمالها المستقبلة وكل آلامها الماضية، الغرفة التي قضت فيها ساعات جوع طويلة محتملة ذلك في سبيل روبي وحده، لكي تجعل نفسها مستحقة أن تكون له.
صفحة غير معروفة