في مساء اليوم الذي عمد فيه قيصر إلى الرحيل، مستجيبا لإلحاح صحبه، بعد أن أمضهم طول الانتظار، تمخضت كليوبطرا عن مولود.
كان غلاما.
وشاءت الطبيعة أن يكون ذلك الغلام نسخة من أبيه، لا يختلف عنه في شيء إلا في صغر ملامح الطفولة، مقيسة على ملامح الرجولة، ولقد هز الفرح قيصر تلك الهزة التي تملك الكهول، إذا جادت عليهم الأقدار بعقب، بعد أن تكون قد نبذتهم، وأطالت بهم النبذ، في بيداء العقم المجدية، وسرعان ما اختار له الاسم فدعاه «قيصرون»، فإن ذلك من حقه وملك يمينه، أما أن يرسم له المستقبل ويحدد تخومه، ويخط في عقله مصوراته، فليس من حقه في شيء، بل إن ذلك من حق الأقدار وحدها؛ ولا شريك لها فيه.
لقد قطع على نفسه عهدا أن يعترف بأبوته للغلام، عندما أقبل يودع كليوبطرا قبيل الرحيل، في موقف جاوزت فيه الملكة حد اللوم إلى التقريع والوخز، توطئة للإفضاء بما تنطوي عليه حناياها: «اتخذني زوجة، قيصر اتخذني زوجة!»
ذلك بأن رأسها الصغير الجميل، ومن فوقه تاج آبائها العظام؛ كان قد أفعم بالأماني، وفاض بالآمال الجسام، آمال أشعرتها بأن نفسها أعظم من أن تقنع بحكم أرض الفراعنة وحدها، لقد فقدت أرض الفراعنة، بعد أن عاثت فيها الجنود الرومانية، رونقها وعظمتها وكرامتها. إن أرض الفراعنة لم تصبح أكثر من سوق تجاري؛ لهذا سبحت أحلامها نحو رومية، وكيف السبيل إليها؟ إنما سبيلها أن تقرن حظها في الدنيا بحظ رجل الإمبراطورية الرومانية؛ ذاك الذي إن شاء وضع رومية من فوق السماك، وإن شاء جلد بها الأرض. •••
لقد كبر هذا الأمر على «قيصر» أول شيء، بل أوسعه هما وملأه إكبارا، ففي القصر الرسمي في رومية «كلپورنيا» زوجه الشرعية، ترتقب أوبته، ذلك في حين أن كليوبطرا كانت زوجا لأخيها، بطلميوس الثالث عشر، تلبية لتقاليد أسرتها القديمة، ولكن ...
أية قيمة لمثل هذه المحظورات في نظر نمرة مثل كليوبطرا، في صدرها قلب، وفي دماغها عقل، وفي نفسها شهوات؟ ما قيمة هذه الاعتبارات في نظر شابة انحدرت من بيت ملكي عرف في أميراته خاصة، أن فيهن من افتراس النمرات، أثرا غير قليل؟
لقد وزنت كليوبطرا الدنيا في يدها، فرأت أنها لن تتسع لمطامعها، وأنها تضيق عن أمانيها ومطالبها، إذا هي قرنت ثروتها الطائلة التي تزودها بها مصر، بعبقرية القائد الأوحد في العالم الروماني، ولا شك في أن ثروة كليوبطرا تؤيدها عبقرية قيصر، كفيلة بأن تذلل الصعاب، وتدك العقبات.
على أن ما كان في إيحاء كليوبطرا من عظمة وجلال، وما كان في مراميها من طموح واستعلاء على كل ما في الدنيا الحافة بها، قد أفعم قلب قيصر، فسكن إلى ذلك الوحي، وجنح إليه، ذلك بأنه كان يعلم قدر ما في سكونه إلى ذلك الوحي من لذاذة تغمر قلب فاتنته الملكية، وهنالك أخذ قيصر من رومية هم عميق: أتسمح رومية لقيصر أنه يركبها مطية إلى مطامع كليوبطرا؟ أضف إلى ذلك أن قانونا صارما من قوانين «السناتو» الروماني، كان يحرم على النبلاء تحريما قاطعا، الزواج من الأجنبيات! - «أجل ... ألست فوق القانون؟»
ولقد سمع قيصر هذه الكلمات تخرج من فم الفاتنة الإغريقية، كأنها رنات المثاني والأعواد، تحركها يد صناع ذات مرانة؛ غير أن رجلا أله في العالم الروماني، وأنزل فيه منزلة الأرباب، كان في مستطاعه أن يقاوم بعض الشيء، مثل هذا الإغراء.
صفحة غير معروفة