وتبيين مآخذهم، ولا في وجوه الأدب، وضروب الأخلاق. فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال، وقد بقيت أشياء من عمل الأمور فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حكم الأولين وقولهم ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس" انتهى كلامه.
وفي قوله: "وقد بقيت ... " فتح لباب التصنيف على نحو هذا المعنى وقد قالوا: ينبغي أن لا يخلو تصنيف من أحد المعاني الثمانية التي تصنف لها العلماء وهي: اختراع معدوم، أو جمع مفترق، أو تكميل ناقص، أو تفصيل مجمل، أو تهذيب مطول، أو ترتيب مخلط، أو تعيين مبهم، أو تبيين خطأ كذا عدها أبو حيان يمكن الزيادة فيها.
قال ملا كاتب جلبي ﵀: "ومن الناس من ينكر التصنيف في هذا الزمان مطلقًا، ولا وجه لإنكاره من أهله وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار والله در القائل:
قل لمن لا يرى المعاصر شيئًا ... ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثًا ... وسيبقى هذا الحديث قديما
واعلم: أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له، وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي، ليس له انقطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين، ما لم يدخر لكثير من المتقدمين، فلا تغتر بقول القائل: "ما ترك الأول للآخر! " بل القول الصحيح الظاهر: "كم ترك الأول للآخر! " فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته، ورداءته في ذاته لا تقدمه، وحدوثه. ويقال "ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم: ما ترك الأول شيئًا" لأنه يقطع الآمال عن العلم، ويحمل على التعلم، فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظاهر، وهو خطر عظيم، وقول سقيم فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها، فالأواخر فازوا بتفريع الأصول وتشييدها كما قال ﵊:
1 / 38