فتح المحتضر عينيه بعد غشية، فأبصر إلى جانب فراشه ولده أبا العباس قد غشى عينيه الدمع، والمكان خال إلا منه، فلا شيء بينهما إلا نجوى صامتة تسر بها عينان إلى عينين، ومضت فترة قبل أن يقول المحتضر وقد اجتمع في رنة صوته ورنوة عينيه كل حنان الأبوة: «كيف تجدك يا بني؟»
قال أبو العباس وقد خنقته عبرته: «إنني بخير ماعشت يا أبت!»
قال الموفق باسما: «أرجو أن تظل بخير أبدا، فلا تجد في نفسك مما كان، فذلك أمر قد انكشفت لك أوائله، ولعلك أن تعرف آخرته عن قريب ... لقد أبلى أبوك يا بني في هذه الدولة بلاء عظيما، حتى أطاع العاصي، وهدأ الثأر، واطمأن النافر، ولم يبق إلا هذه الطولونية في المغرب قد زين لها الغنى والحداثة ما زين من الأماني، ولم تخف على أبيك من خبرها خافية منذ كانت، ولكني آثرت أن أصطنع السياسة فيما بيننا من ظاهر المودة، حتى لا تجاهر بالعصيان، وهي على خزانة السلطان وفي يدها نصف خراج الدولة ... وقد حمل أبوك العبء كله راضيا على ما به من جهد، وعمك الخليفة المعتمد على ما تعرف من أمره، لا يكاد يفيق من نشوته، وقد جعل العهد من بعده لولده جعفر المفوض، ثم لأبيك، فلعله حين ينفذ أمر الله أن يلهم الخير فيجعل إليك ما كان بيدي من الأمر ويبايع لك ... فإذا آل إليك هذا الأمر يا بني فلا تعجل على عدوك حتى تستمكن منه، وإذا حزبك يوما أمر من الأمر ولم تجد الوسيلة، فاحبس نفسك على ما تكره حتى ينقاد لك العصي، فقد حبسك أبوك يوما وأنت أحب إليه.»
وجاشت عواطف المحتضر بالذكرى فصمت برهة، ثم تخفف من أشجانه وأقبل على ولده ليتم حديثه إليه، قال: «وقد قامت سياسة بني طولون على محاولة اصطناع ذوي السلطان في الحضرة بالمال والصهر فلا يخدعنك ما يحاولون معك ...»
ثم ابتسم وقال: «وأنت يا أبا العباس شاب من همك النساء والطعام، فلا تدع لخمارويه بن طولون أن يقودك من هذا الزمام يوم يصير إليك الأمر، فإن لجواري مصر فتنة.»
قال أبو العباس منكرا: «يا أبه! ...»
قال الموفق: «إنه المزاح يا بني مما فاض على قلبي من السرور برؤيتك راشدا ...»
وسمع خفق نعال تدنو من الباب، فقال الموفق: «أحسبهم بعض أصحاب الخليفة قد استبطئوا ساعتي فجاءوا في مظهر العواد،
107
فابتسم لهم يا بني واحذرهم، وإذا قلدتهم أمرا من أمرك غدا فاجعل بعضهم عينا على بعض؛ لتملكهم وتملك بهم.»
صفحة غير معروفة