وانحدر الأمير إلى بستان القصر يتبعه جواريه ووصائفه وحظيته بوران، حتى انتهى إلى برج الساج، حيث تسرح القماري والدباسي وصوادح الطير شادية مغردة في عشاشها في ترجيع عجيب وموسيقى ساحرة، وقد انتشرت إلى يمين البرج وشماله طائفة شتى من الطواويس ودجاج الحبش سارحة في مسارحها، وقد نثرت الشمس من فروج الشجر على أجنحتها دنانير ذهبية، فاختلط منها لون بلون يبهج النفس ويفتن الناظر، وقال الأمير: «هنا فليكن مجلسنا للصبوح
96
في هذه الغداة.»
قالت بوران: «لله ما أبدع يا مولاي! فهلا أمرت أن يعمل في هذا الجانب من البستان دار يكون إليها مغدانا للصبوح ومراحنا للغبوق
97
كل صباح ومساء؟»
وحقق لها الأمير ما تمنت، فما هي إلا أيام حتى تم بناء المجلس الذي اشتهته، وسماه الأمير «دار الذهب»، وكانت دارا عجيبة لم تشهد لها الدنيا مثيلا في قصر من قصور الملوك، قد طليت حيطانها كلها بالذهب واللازورد، في أحسن نقش وأبدع زينة، وجعل في حيطانها مقدار قامة ونصف صور بارزة من خشب محفور على صورة الأمير وصور حظاياه والمغنيات اللاتي يغنينه، في أحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعلت على رءوسهن الأكاليل المرصعة من الذهب والجوهر، وفي آذانها الأقراط الثقال، ولونت أجسامها بأصناف تشبه الثياب من الأصباغ العجيبة.
وكان إلى هذا المجلس مغدى الأمير ومراحه كل يوم للصبوح والغبوق بين جواريه وحظاياه، وكأنما كشف له الستر عما وراء الغيب من صور الجنة ونعيمها فاستعجل به في دنياه ... فلا يكاد يخطر له خاطر مما لا يبلغه حلم الحالم أو خيال المتمني حتى يمثله حقيقة ملموسة تراها العين وتنالها اليد
98 ... •••
واشتكى الأمير إلى طبيبه كثرة السهر وطول الأرق، فأشار عليه الطبيب بالتكبيس، ولكن ابن طولون لم يكن يطيق أن يضع عليه أحد يدا ... فأمر بعمل فسقية من زئبق، تبلغ خمسين ذراعا طولا في خمسين ذراعا عرضا، وملأها من الزئبق جاء به وكلاؤه من المغرب وخراسان، لم يبخل عليه بثمن ولم تثقل عليه مئونة، وجعل في أركان بركة الزئبق سككا
صفحة غير معروفة