ثم قصد إلى الباب، وخلف الموفق في مجلسه وعلى شفتيه ابتسامة وفي عينيه انكسار. •••
كان أبو العباس على أديم منقوش في الغرفة التي جعلها أبوه سجنا له، وقد أسند رأسه إلى راحته، وأسبل جفنيه يفكر في أمره، وجلس غير بعيد منه غلامه «طريف»، قد جمع يديه في حجره، وعيناه شاخصتان إلى مولاه لا يكاد يطرف، وقد شمل الغرفة صمت كصمت القبور، إلا أنفاسا تتردد، تعلو حينا حتى تبلغ أن تكون زفرة شاك، وتخفت أحيانا فتشبه أنفاس محتضر.
وكان قد مضى أيام على الأمير في سجنه لا يطعم شيئا من زاد، فإن غلمان أبيه ليحضرون له المائدة الحافلة في موعد كل طعام، فيردها لم يتبلع منها بشيء، فيعودون من حيث أتوا، لا يعترض منهم معترض، ولا ينبس ببنت شفة، وفى وجوههم الكآبة وفي عيونهم الانكسار وفى صدورهم هم لا يبرح، شفقة على أميرهم وحبا له، فلولا ما يخشون من بأس الموفق لتمردوا على الولاء له ...
وقال طريف لمولاه، وقد نال منه ما رأى من ذبوله وإطراقه وصمته: «إلى متى يا مولاي؟»
قال أبو العباس: «إلى أن يحين الأجل ... فإن كنت قد مللت الصحبة فقد أذنت لك.»
قال طريف: «يامولاي!»
قال أبو العباس: «اسكت، لا مولى لك ... أرأيت الموفق مخرجي من هذا الجب، وقد ألقى بي إليه إلا أن يحين الأجل ... تلك كلمته دائما كلما سأله سائل عن موعد أمر لم يقطع فيه برأي ... ستنهار الطولونية يوم يحين أجلها ... وسيخرج أبو العباس من سجنه يوم يحين أجله! ... ولكن لا، سيحين هذا الأجل بيدي، بيدي وحدي ...»
وصرت أسنان أبي العباس وحملق كأنما يرى أمامه عدوا قد آده
78
الصبر عليه، وصاح: «سيحين هذا الأجل بيدي، بيدي وحدي ... وسيرى الموفق ما لم ير، وسيعلم ما لم يكن يعلم.»
صفحة غير معروفة