ومنهم أبو جهير الضرير رحمة الله عليه
21 - قال شعيث بن الليث: حدثني الليث (قال): حدثني عمرو بن الحارث (قال): #87# حدثنا أبو محمد القيسي (قال): حدثنا صالح المري قال: أتاني مالك بن دينار يوما فقال: يا صالح اذهب بنا إلى أبي جهير يدعو الله لنا. فقلت له: قد ارتفع النهار؛ وإذا دخل بيته لم يخرج إلى أحد. قال: وكان بيته أقصى بيت بالبصرة، والصحراء يومئذ جاره، وبين يدي داره بئر، ودلو، وأحجار، ومسجد. فقلت: صل الغداة، وائتني حتى نذهب إليه. وهو في مسجده قبل أن يدخل داره. قال: فلما صليت الغداة، فإذا أنا بمحمد بن واسع؛ فسلم، وجلس. قلت له: ما جاء بك؟
قال: يا أبا عبد الله تجيء معي إلى أبي جهير يدعو الله لنا؟ فقلت له: قد وعدت مالك بن دينار يجيء، فنقوم، ونذهب. فلم ينقض كلامي حتى جاء ثابت البناني؛ فسلم، وجلس. فقلت له: ما جاء بك يا أبا محمد؟ قال: تجيء معي إلى أبي جهير يدعو الله تعالى لنا. فقلت: قد جاء هذان فيما جئت فيه، وقد وعدت مالكا يجيء؛ فنقوم. فلم ينقض كلامي حتى جاء مالك.
فقمنا خمسة لم يكن في البصرة يومئذ أفضل منهم.
قال: فأخذنا على الجبان، فكلما مررنا بروضة خضراء؛ أو مكان لطيف؛ قال مالك: أبا محمد صل لك في هذه البقعة #89# تشهد لك غدا؟ فلم يزل كذلك في صلاة حتى ارتفع الضحى، وكان يوم حار، وطريق بعيد، فأتينا منزله، وقد دخل بيته؛ فاستأذناه، فإذا امرأة من وراء الجدار: لم نر لها وجها؛ كأن حزن أهل الدنيا، وأهل الأرض عليها. قالت: وما تشاؤون؟ قلت: الشيخ. قالت: لا تصلون إليه دون الظهر؛ يخرج للصلاة؛ فترونه إن شاء الله تعال. فقال بعضنا لبعض أين نذهب؟! نقيم إلى الظهر؛ فأتينا مسجده، فمن بين قائم يصلي، وبين قارئ وذاكر لله تعالى حتى كان الظهر، فقمنا إلى البئر فاستقينا ماء، وتوضأنا، ودخلنا مسجده، فقمنا نصلي، فبينما نحن كذلك إذ خرج علينا أبو جهير، رجل ضرير كأنه شن بال يتلألأ وجهه نورا، فأذن، ثم جاء يمشي حتى قام في المحراب، فصلى ثماني ركعات وسمع حسا. قال: وجاء جيرانه نحو بضعة عشر رجلا.
قال: فخرج من المسجد فأقام الصلاة، ثم جاء يمشي، حتى قام في المحراب، فصلى بنا الظهر، ثم قعد ساعة يذكر الله تعالى، ثم قام فصلى ثماني ركعات، ثم وجه وجهه إلينا. فقام إليه محمد بن واسع؛ فسلم عليه فرحب به، ورد عليه السلام، وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا محمد بن واسع. قال: أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك أعبدهم؟ ألا سألت الله تعالى أن يستر ذلك عليك؟! فسكت، ثم جلس. ثم قام إليه ثابت البناني فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا ثابت. قال: أبو محمد؟ قال: نعم. فرحب به، وقال: أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك أكثرهم صلاة؟ ألا سألت ربك أن يستر ذلك عليك؟! فسكت، فجلس. ثم قام إليه حبيب أبو محمد، فسلم عليه، فرد عليه السلام. وقال له: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا حبيب؟ قال: أبو محمد؟ قال: نعم. فرحب به. وقال: أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك مستجاب الدعوة؟ ألا سألت ربك #91# أن يستر ذلك عليك؟! فسكت، ثم جلس. ثم قام إليه مالك، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال له: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا مالك. قال: أبو يحيى؟ قال: نعم. قال: بخ بخ أنت الذي يزعم أهل البصرة أنك أزهدهم؟! ألا سألت الله أن يستر ذلك عليك؟! فسكت، فجلس. ثم قمت أنا إليه، فسلمت عليه فرد علي السلام، وقال: من أنت يرحمك الله؟ قلت: أنا صالح. قال: القارئ؟ قلت: نعم. قال: فرفع يديه، فقال: الحمد لله الذي جمعكم لي، أما إني كنت أسأل الله تعالى أن يجمعكم لي، فالحمد لله الذي استجاب دعوتي، يا صالح إني إلى قراءتك بالأشواق. فقال له محمد بن واسع: يا أبا جهير إنما جئنا لتدعو الله تعالى لنا. قال: فرفع يده، ورفعنا أيدينا، وجعل يدعو ساعة. ثم قال: يا صالح اقرأ قال صالح: فذهبت أقرأ، ففتح الله تعالى علي من الصوت شيئا لم أعرفه من نفسي قط، ولا سمعت مثله من غيري. ثم #92# قرأت {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا. الملك يومئذ الحق للرحمن} قال: فزعق زعقة عظيمة مزعجة، وضرب بنفسه الأرض مغشيا عليه.
قال: فظننا أنه قد مات، فلم نزل نزلزله، ونصب عليه الماء إلى أن أفاق، فلما أفاق، ورجع؛ فكأنه لم يخلق في جسده من الروح شيء. فقال لي: يا صالح اقرأ؛ فإني لا أشبع من قراءتك. قال: فقرأت {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}.
قال: فوالله ما تممت الآية حتى مات رحمة الله عليه. قال: فظننا أنه مثل الأول، فحركناه، فإذا هو يابس.
قال: فقمنا إلى المرأة، فقلنا لها: يا هذه؟ فقالت: ما تسألون؟
قلنا: إن أبا جهير -رحمة الله عليه- قرئ عليه القرآن فمات. فقالت: ليس هذا بعجب، ولكن أخبروني أفيكم صالح القارئ؟ قلنا: وتعرفينه؟ قالت: ما رأيته قط. فقلنا: فلأي شيء تسألين عنه؟ قالت: إن أبا جهير -رحمه الله- كان كثيرا ما يقول: إني إلى قراءة صالح المري بالأشواق، واعلمي يا هذه أني إن سمعت قراءته مت، فلما قلتم لي إنه سمع القرآن فمات، ظننت أنه سمع قراءة صالح؛ فمات.
فقالت: الحمد لله الذي استجاب دعاه، وأعطاه سؤله، يا هؤلاء إن أبا جهير كان يدعو كثيرا: اللهم اخمل أمري على الناس، وهذا سرير غسله، والسرير الذي يحمل عليه موضوع، وأكفانه، وقطنه، وحنوطه، ودخنته، والمجمر، والفحم موضوع مهيأ: كان يجدد ذلك كل أيام، وليس تكلفوا شراء شيء من الأشياء، وهذا زنبيل، ومسحاة، وفأس؛ لقبره، ولنا جيران حوالينا بيوتهم فيها #94# الرجل والرجلان؛ فأعلموهم يحضرون؛ فيحفرون له قبرا بين يدي داره، وتولوا أنتم غسله، وأدخلوه قبره، ففعلنا ذلك، فغسلناه، ووضعناه على سريره، واجتمع جيرانه نحوا من عشرين رجلا، فحفروا له قبرا بين يدي داره، فأخذوا هم في حفر قبره، وأخذنا نحن في غسله. فلما فرغنا من غسله، وجئنا بأكفانه؛ فألبسناه، ووضعناه على سريره، وقد فرغ من حفر قبره، فأخرجناه، فصلى عليه محمد بن واسع، ثم دفناه رحمة الله عليه، فلما رأينا للمرأة وجها، ولا سمعنا لها بكاء، ولا حسا، وانصرفنا راجعين وتفرقنا.
قال صالح: كنت إذا لقيت محمد بن سليمان الهاشمي قال لي: يا صالح حدثني بحديث أبي جهير، فأحدثه، فلا يزال يبكي حتى تبل لحيته.
صفحة ٨٦