وداعا يا عقلي! خاطب بنتك يريدك وأنت تريدينه، ليرحم الله من يحسنون الظن بالنساء، لا يمكن أن يكون في رأس هذه المرأة عقل، جارة العمر ولا تعرفها إلا اليوم! مجنونة، مراهقة في الخمسين! - متى تعود مريم هانم؟ - قبيل المساء.
قال بخبث: أشعر بأن زيارتي قد طالت. - لم تطل زيارتك، أنت في بيتك.
فسألها بخبث أيضا: ترى هل أطمع في أن تردي لي الزيارة؟
فابتسمت ابتسامة عريضة، كأنما تقول له: «إني أدرك ما وراء هذه الدعوة.» ثم أطرقت في حياء وإن لم يغب عنه ما في حركتها من تمثيل، ولكنه لم يبالها، وراح يصف لها موقع بيته من الحارة، وموضع شقته من البيت، وهي مطرقة صامتة باسمة، ترى ألم تشعر بأنها تسيء إلى ابنتها أبلغ إساءة، وأنها تعتدي عليها أنكر اعتداء؟ - متى تتكرمين بالزيارة؟
غمغمت وهي ترفع وجهها: لا أدري ماذا أقول!
فقال بتوكيد وثقة: أقول أنا بالنيابة عنك، مساء الغد، ستجدينني في انتظارك. - ثمة أمور يجب أن نعمل حسابها. - سنعمل حسابها معا، في بيتي.
وقام من فوره وهم بأن يتقدم نحوها، فأشارت إليه وهي تلتفت نحو الباب محذرة، ثم قالت وكأنما لا تقصد إلا التفادي من صولته: غدا مساء.
12
وعرف بيت قصر الشوق بهيجة زائرة مواظبة، كانت إذا نشر الظلام ستاره، تتلفع بملاءتها، وتمضي إلى الجمالية، فإلى بيت هنية، وهنالك تجد ياسين في انتظارها بالحجرة الوحيدة المفروشة في الشقة، ولم يجر لمريم ذكر بينهما إلا حين قالت له مرة: لم أستطع أن أخفي عن مريم نبأ زيارتك؛ لأن خادمتنا تعرفك، ولكني قلت لها: إنك فاتحتني برغبتك في خطبتها بعد تذليل العقبات التي تعترض سبيلك في محيط الأسرة.
ووجد نفسه مذهولا عن مناقشتها، فأبدى موافقته واستحسانه، واستقبلا معا حياة حافلة بالمتع، وجد ياسين ذات «الكنز» ملبية بين يديه، فانطلق انطلاق الجواد الجامح، ولم تكن الحجرة التي أثثت على عجل واقتصاد بالمكان الصالح لمطارحة الغرام، ولكنه لم يأل عن تهيئة الجو الخلاب بتوفير الطعام والشراب حتى يطيب له الوصال فيواصل صولاته بذلك النهم الغريزي الذي لا يعرف حدا أو اعتدالا. وما لبث أن أدركه الملال قبل أن يتم الأسبوع الأول دورته. هي نفس الحلقة التي تدور فيها شهوته حتى غدا الدواء نوعا من الداء، بيد أنه لم يؤخذ على غرة، كلا! ولم يضمر نحو تلك العلاقة الغريبة من بادئ الأمر أي نية حسنة ولا قدر لها أي دوام، بل لعله لم يبلغ من وراء المغازلة في حجرة الاستقبال إلا ضجعة عابرة، غير أنه وجد من المرأة تعلقا به، وحرصا عليه، وأملا في أن يكون قنع بها راضيا، وعدل عن مشروع الزواج، فلم ير بدا من مجاراتها كي لا يفسد على نفسه لذتها مؤمنا بأن الزمن وحده كفيل بإرجاع كل شيء إلى أصله. وما أسرع أن رجع كل شيء إلى أصله بالنسبة إليه هو، بل ربما أسرع مما قدر، وكان جاراها وهو يظن أن جدة محاسنها خليقة بأن تحتفظ برونقها أسابيع أو شهرا، ألا يا ربما كذب الظن! أما عن مظهرها الشهي فبحسبه أن جعله يرتكب أكبر حماقة في حياته العامرة بالحماقات، ولكن الكهولة تكمن وراء ذلك كما تكمن الحمى وراء تورد الخدين الكاذب، وإن القناطر المقنطرة من اللحم البشري المتحكبة تحت طيات الثياب - على حد قوله - غيرها إذا تجردت للعيان، وليس كاللحم البشري مسجل لآثار العمر الحزينة، حتى قال لنفسه: «الآن أدرك لماذا تعبد النساء الملابس!» لم يكن عجيبا بعد ذلك أن يقول عنها وقد ضاق باندلاقها عليه أنها «مرض»، وأن يجمع العزم على قطع علاقته بها. وعادت مريم - بعد خمود النزوة الجنونية - إلى سابق مكانتها من نفسه، كلا، لم تكن بارحتها، ولكن النزوة الطارئة غشيتها كما تغشى السحابة العجلى وجه القمر، عجبا! لم تعد رغبته في مريم مجرد استجابة لولعه الخالد بجنسها وإن غلب ذلك عليها، ولكنها أرضت من ناحية أخرى حنينه إلى تكوين الأسرة التي كان يعتدها مصيرا محتوما ومرغوبا فيه أيضا. واستوصى بالصبر - كارها - على أن تثوب بهيجة إلى رشدها، أن تقول له يوما: «حسبنا لعبا، وهلم إلى عروسك.» ولكنه لم يجد لأمله صدى في نفسها، كانت تواظب على الزيارة ليلة بعد أخرى، وما تزداد إلا إغراقا وتهالكا. وشعر بأنها تمتلئ مع الزمن إيمانا بحقها عليه كأنه بات محور حياتها وملك يمينها.
صفحة غير معروفة