فكر في أمرك وانظر في أي اتجاه تسير، المكتوب لازم تشوفه العين، الإقدام مر، والنكوص مرعب، كم كنت تراها وهي في ميعة الصبا فلم توقظ فيك نائما، ومررت بها كأنها شيء لم يكن، ماذا جد حتى زهدت فيمن أحببت، وأحببت من كنت تزهد، ليست أجمل من زبيدة ولا جليلة، ولو كان بها جمال ينافس جمال خالتها ما اصطحبتها، على ذلك فأنت تريدها وتريدها بكل قوة نفسك ... آه، ما جدوى المكابرة؟ لا أرضى إلا بمن أحبه! أحبك برص يا بنت اللبؤة ... تألم حتى تختنق، ما أذل الإنسان مثل نفسه! هل تذهب إلى العوامة؟ ليست خير مكان لإذاعة الفضائح. البيت؟ هناك زبيدة، أهلا، أهلا، أعدت أخيرا إلى عرينك؟ بم تجيبها؟ لم أعد لذاك، ولكني أريد بنت أختك! يا له من سخف! دع الهذر. هل فقدت صوابك؟ استعن بالفار أو بمحمد عفت، السيد أحمد عبد الجواد يبحث لنفسه عن شفيع إلى ... زنوبة! ... أليس من الأفضل أن تفصد نفسك حتى يتفصد الدم الخبيث الذي يسيمك الذل.
كان الليل قد غشي الغورية، وأغلقت أبواب حوانيتها، حين أقبل أحمد عبد الجواد من دكانه عقب إغلاقها، يسير في خطوات وئيدة وعيناه تتفحصان الطريق والنوافذ، لاح وراء نافذتي زبيدة ضوء، ولكنه لم يدر ماذا كان يدور وراءهما، أوغل في الطريق وقتا ثم عاد من حيث أتى، فوصل مسيره إلى بيت محمد عفت بالجمالية حيث يلتقي الأصدقاء الأربعة قبل انطلاقهم إلى السهرة معا. قال السيد مخاطبا محمد عفت: ما ألطف ليالي العوامة، لا يزال قلبي يحن إليها!
فقال محمد عفت ضاحكا في ظفر: هي رهن إشارتك في أي وقت تشاء.
وعقب علي عبد الرحيم على ذلك بقوله: حننت إلى زبيدة، يا عكروت.
فبادر السيد قائلا في جد: كلا. - جليلة؟ - العوامة ولا شيء عداها.
فسأله محمد عفت بمكر: أتريدها سهرة قاصرة علينا، أم ندعو إليها صديقات الزمان الأول؟
فضحك السيد ضحكا أعلن به هزيمته، ثم قال: بل تدعوهن يا ابن الماكرة، وليكن ذلك مساء الغد؛ لأن الوقت تأخر بنا الليلة، ولكني لن أجاوز الاستمتاع بالمجالسة والمؤانسة.
قال إبراهيم الفار «إحم»، وقال علي عبد الرحيم: «على روحي أنا الجاني.» وقال محمد عفت ساخرا: «سمه كما تشاء، تعددت الأسماء والفعل واحد.»
ثم كان اليوم التالي كأنما اكتشف قهوة سي علي لأول مرة، انجذب إليها قبيل الأصيل، وجلس على الأريكة تحت الكوة، فأقبل عليه صاحب القهوة مرحبا. فقال له السيد وكأنه يبرر مجيئه إلى القهوة لأول مرة: كنت راجعا من بعض الأعمال، فنازعتني النفس إلى احتساء شايك العذب.
زيارة لا يبدو أنه من السهل أن تتكرر. رويدا، رويدا، ستفضح نفسك أمام الناس، ما جدوى هذا كله؟ هل يسرك حقا أن تراك من وراء الخصاص لتهزأ من تدهورك؟ إنك لا تدري ماذا تصنع بنفسك. أتعبت عينيك في محجريهما ودوخت دماغك، لن تبدو لك. والأدهى من هذا أن تتفرج عليك ساخرة من وراء خصاص، ماذا جاء بك؟ تريد أن تملأ عينيك منها، اعترف، تريد أن تقيس أبعاد جسمها اللدن ... أن ترى ابتسامتها وإغضاءتها ... أن تتابع أناملها المخضبة، فيم هذا كله؟ لم يسلف لك شيء كهذا مع من فقنها حسنا ورواء وشهرة، أقضي عليك أن تتعذب وتهون في سبيل الشيء الحقير! لن تبدو ... تطلع كيفما شئت ... الفت إليك الأنظار ... السيد أحمد عبد الجواد في قهوة سي علي يسترق النظر من الكوة، لشد ما تدهورت! من أدراك أنها لم تفش سرك؟ لعل التخت يدري، ولعل زبيدة نفسها تدري، ولعل الجميع يدرون. مد يده المحلاة بالخاتم الماسي إلي فصددته، ثم توسل إلي؛ فأصررت على صده ... هذا هو السيد أحمد عبد الجواد الذي تشيدون به ... لشد ما تدهورت! أقسى التدهور ما تنحدر إليه، بل ما تصر على الانحدار إليه، وأنت أعلم الناس بما ينطوي عليه فعلك المشين من مذلة وهوان، إذا عرف السر أصحابك وزبيدة وجليلة، فماذا أنت صانع؟! حقا أنت ماهر في مداراة الحرج بالنكتة، ولكن سوف تنحسر موجات الضحك والقهقهة عن الحقيقة المرة ... هذا مؤلم، وآلم منه أنك تريدها. لا تكذب على نفسك، فأنت تريدها حتى الممات. ماذا أرى؟ ... تساءل وهو ينظر إلى عربة كارو جاءت فوقفت أمام بيت العالمة، ثم ما لبث أن فتح الباب فخرجت عيوشة الدفافة ساحبة وراءها عبده القانونجي، ثم تبعتها بقية الجوقة؛ فأدرك أنهم ذاهبون إلى فرح من الأفراح، وشعر الرجل شعورا عنيفا بخفقان قلبه وهو يتطلع إلى الباب في ترقب مشوق محزن. اشرأب بعنقه في غير ما حيطة متجاهلا من حوله من الناس، ثم رنت ضحكة وراء الباب، ثم برز العود في جراب بمبي يسبق صاحبته التي خرجت في نشاط ثوري ضاحكة، ثم وضعت العود على مقدم العربة، وصعدت إليها بمعونة عيوشة، وجلست في الوسط حتى لم يعد يرى منها إلا منكبا يبدو خلال زاوية انفرجت ما بين عيوشة وعبده الضرير. أصر السيد على أسنانه حنينا وحنقا معا. أتبع العربة عينيه وهي تتمايل ذات اليمين وذات الشمال موغلة في الطريق، مخلفة في صدره إحساسا عميقا بالكآبة والهوان. وتساءل: هل يقوم فيتبعها؟ غير أنه لم يحرك ساكنا، ولم يزد على أن قال لنفسه : «كان المجيء إلى هنا حماقة جنونية.»
صفحة غير معروفة