قالت مريم بغتة: آه! ... ما الذي يدعوني إلى البقاء؟
ودارت حول نفسها، ثم تطامن رأسها لتمر من تحت الغسيل، فأرسل صوته وراءها قائلا في جزع: تذهبين دون تحية!
اشرأب رأسها فوق حبل الغسيل، ثم قالت: البيوت من أبوابها، هذه تحيتي.
واتجهت مسرعة نحو باب السطح فمرقت منه.
عاد ياسين إلى الصالة، فاعتذر لأمينة عن طول غيبته بحرارة الجو في الداخل، ثم ذهب إلى حجرته ليرتدي بذلته. كان كمال يتبعه عينيه في دهشة وتفكير، ونظر إلى أمه فألفاها هادئة مطمئنة وكانت فرغت من احتساء قهوتها وقراءة الفنجان، فتساءل ترى ماذا يحدث لها لو علمت بما دار فوق السطح؟ ... هو نفسه لم يزايله القلق منذ اطلع مصادفة على منظر المتناجين حين مضى وراء أخيه مستطلعا غيبته، فعل ياسين ذلك، هل هانت عليه ذكرى فهمي؟ لا يستطيع أن يتصور هذا، كان ياسين يحب فهمي حبا صادقا، وقد حزن عليه حزنا شديدا، لا يجوز أن يرتاب في إخلاصه، إلى أن هذه «الحوادث» كثيرا ما تقع، ثم إنه لم يدر لم يربطون دائما بين فهمي ومريم؟ لقد علم المرحوم بواقعة جوليون في حينها، ثم مر زمن طويل بدا عليه أنه نسيها نسيا تاما، وشغل عنها بما هو أجل وأخطر، وما كانت تستحق غير ذلك، وما كانت يوما كفئا له. إنه مما يدعو إلى النظر حقا أن يتساءل: هل يمكن أن ينسى الحب؟ الحب لا ينسى، هذا ما يؤمن به، ولكن من أدراه أن فهمي أحب مريم بالمعنى الذي يفهمه - أو يشعر به - هو من الحب؟ لعلها كانت رغبة قوية، كهذه الرغبة التي تستحوذ الساعة على ياسين، بل كتلك الرغبة القديمة إلى مريم نفسها التي ناوشته هو على عهد البلوغ وعابثت أحلامه، أجل وقع هذا أيضا، وعانى منها ألمين؛ ألم الرغبة، وألم الندم، وكانا في القوة متعادلين فلم ينقذه من شرهما إلا زواج مريم واختفاؤها. يهمه أن يعلم الآن هل تألم ياسين وهل وخزه الندم؟ وإلى أي مدى؟ لا يتصور أن يكون الأمر جرى سهلا مهما يكن ظنه بحيوانية ياسين، وفتور حماسه للمثل العليا. وعلى رغم نظرته المتسامحة للأمر كله شعر بامتعاض وقلق كما ينبغي لإنسان لا يعدل بمثاليته شيئا في الوجود.
رجع ياسين من الحجرة وقد ارتدى ملابسه وأخذ زينته، فحياهما وانصرف، وبعد قليل سمعا نقر استئذان على باب الصالة، فدعا كمال القادم - وهو على يقين من هويته - فدخل شاب يماثله في السن، قصير القامة، وسيم الطلعة، مرتديا جلبابا وجاكتة، فقصد أمينة وقبل يدها، ثم صافح كمال وجلس إلى جانبه، كان في سلوكه - رغم ما أخذ به نفسه من التأدب - ألفة كأنما كان واحدا من أهل البيت، وأكثر من هذا فقد أقبلت أمينة تحادثه وهي تدعوه بكل بساطة: «يا فؤاد»، وتسأله عن صحة أبيه جميل الحمزاوي ووالدته، فيجيبها مستشعرا السرور، والامتنان في حسن استقبالها، وترك كمال صديقه مع والدته، ومضى إلى حجرته ليرتدي جاكتته، ثم يعود إليه فينطلقا معا.
6
سارا جنبا إلى جنب صوب درب قرمز، متجنبين طريق النحاسين، ليتفاديا من المرور بالدكان حيث يوجد والداهما ... كمال بقامته الطويلة النحيلة، وفؤاد بقامته القصيرة، تكاد صورتاهما تلفتان الأنظار بتناقضهما، تساءل فؤاد بصوت هادئ: أين تذهب هذا المساء؟
فأجابه كمال بصوته الانفعالي: قهوة أحمد عبده.
كان كمال - عادة - يقرر، وفؤاد يوافق رغم ما عرف عن الأخير من رجاحة العقل، ورغم نزوات كمال التي كانت تبدو مضحكة في عين رفيقه، مثل دعواته المتكررة له للذهاب إلى جبل المقطم، والقلعة، والخيمية، لتسريح النظر - على حد تعبيره - في مخلفات التاريخ وعجائب الحاضر، ولكن الحق أن العلاقة بين الصديقين لم تخل من تأثر بفارق طبقتيهما، وكون الأول ابن صاحب الدكان والآخر ابن وكيله، وعمق هذا التأثر أن فؤاد اعتاد في صباه أن يؤدي ما يكلف به من شراء بعض حوائج لبيت السيد أحمد، وأن يكون صنيعة لكرم أمينة التي لم تكن تضن عليه بأحسن ما عندها من مأكل - وكثيرا ما يصادف مجيئه أوقات الغداء - وأصلح ما يمكن استغناء عنه من ملابس كمال، فربط بينهما منذ البدء شعور باستعلاء من ناحية، وبالتبعية من ناحية أخرى ... وهو وإن مضى يزول بحلول شعور الصداقة محله، إلا أن أثره النفسي لم يقتلع من الأعماق، وقد قضت ظروف بألا يجد كمال من رفيق تقريبا طوال العطلة الصيفية إلا فؤاد الحمزاوي، ذلك أن رفاق صباه من أهل الحي لم يواصلوا التعليم إلى النهاية؛ منهم من توظف بالابتدائية أو الكفاءة، ومنهم من اضطر إلى مزاولة عمل من الأعمال البسيطة مثل صبي قهوة بين القصرين، وصبي الكواء البلدي بخان جعفر. كان كلاهما من أقرانه في الكتاب. وما زال ثلاثتهم يتبادلون تحية الزمالة القديمة كلما اتفق لهم اللقاء، تحية مشربة بالاحترام من ناحيتهما لما يضيفه طلب العلم عليه من امتياز، مشبعة من ناحيته بالمودة الصادرة عن نفس مطبوعة على التواضع والبساطة، أما أصدقاؤه الجدد الذين اكتسب صداقتهم في العباسية؛ حسن سليم، وإسماعيل لطيف، وحسين شداد فكانوا يقضون العطلة في الإسكندرية ورأس البر، فلم يبق من رفيق إلا فؤاد.
صفحة غير معروفة