لاحت في عيني حسين نظرة حالمة وهو يقول: من التعليم إلى الصحافة على ما أظن، أليس كذلك؟
وجد نفسه يفكر في المستقبل، فعاودته فكرة الكتاب الجامع الذي حلم كثيرا بتأليفه، ولكن ماذا بقي من موضوعه الأول؟ لم يعد الأنبياء أنبياء، ولا الجنة والجحيم، وليس علم الإنسان إلا فصلا من علم الحيوان، فعليه أن يبحث عن موضوع جديد. قال مرتجلا أيضا: لو أتمكن يوما من إنشاء مجلة للدعاية للفكر الجديد!
فقال إسماعيل لطيف بلهجة الوعظ والإرشاد: بل السياسة هي السلعة الرائجة، خصص للفكر إذا شئت عامودا في الصفحة الأخيرة، وفي البلد متسع لكاتب وفدي هجاء جديد.
فضحك حسين ضحكة عالية، وقال: لا يبدو أن صاحبنا سياسي إيجابي، حسب أسرته ما قدمت من فدية، أما الفكر فالمجال أمامه واسع فيه. (ثم مخاطبا كمال): لديك ما تقوله، لقد كانت ثورتك الإلحادية طفرة مفاجئة لم أتوقعها من قبل.
ما أسعده بهذه الصفة الجديدة التي وجد فيها تحية لثورته وتملقا لغروره، قال وقد تورد وجهه: ما أجمل أن يكرس الإنسان حياته للحق والخير والجمال!
صفر إسماعيل ثلاثا، لكل قيمة صفيرا، ثم قال متهكما: اسمعوا وعوا.
أما حسين فقال جادا: إني مثلك، ولكني قانع بالمعرفة والمتعة.
فقال كمال بحماس وإخلاص: الأمر أجل من هذا، إنه كفاح في سبيل الحق يستهدف خير الإنسانية جميعا، وبغيره لا يكون للحياة معنى في نظري.
ضرب إسماعيل كفا بكف - وقد ذكرته هذه الحركة بأبيه - وقال: إذن فالواجب ألا يكون للحياة معنى! كم تعبت وشقيت حتى تحررت من الدين! لم أتعب أنا تعبك، ولكن الدين لم يكن شغلي أبدا، فهل تعدني يا ترى فيلسوفا بالفطرة؟ حسبي أن أعيش الحياة التي لا تحتاج إلى تعريف، غير أن هذا الذي أتبعه بالفطرة لا تبلغه أنت إلا بالكفاح المرير، أستغفر الله، بل أنت لم تبلغه بعد فلا زلت - حتى بعد إلحادك - تؤمن بالحقيقة والخير والجمال، وتريد أن تكرس لها حياتك، أليس هذا ما يدعو إليه الدين؟ فكيف تكفر بالأصل وتؤمن بالفرع؟
لا تبال رفيق المزاح، لكن لم يبدو ما يؤمن به من القيم مثارا للسخرية؟ هبك خيرت بين عايدة وبين الحياة السامية فأيهما تختار؟ ... لكن عايدة تتخايل لعيني دائما وراء المثل.
صفحة غير معروفة