180

قصر الشوق

تصانيف

وجاء نوبي حاملا أكواب الشربات، ثم تبعه آخر بصينية محملة بعلب الحلوى الفاخرة. علبة من البللور على قوائم أربع مذهبة، مموه زجاجها الكحلي بزخارف فضية، وقد انعقد عليها شريط أخضر من الحرير سجل على لافتة هلالية في عقدته الحرفان الأولان لاسمي العروسين «ع. ح». شعر وهو يتناول العلبة بارتياح لعله كان أول شعور بالارتياح يحظى به في ذلك اليوم. فقد وعدته العلبة الفاخرة بأن معبودته ستترك وراءها أثرا خالدا كحبها، وأن هذا الأثر سيبقى ما بقي هو على الأرض رمزا لماض غريب، وحلم سعيد، وفتنة سامية، وخيبة رائعة. ثم لفه شعور بأنه ضحية اعتداء منكر تآمر به عليه القدر، وقانون الوراثة، ونظام الطبقات، وعايدة وحسن سليم، وقوة خفية غامضة لم يشأ أن يسميها ... وتراءى له شخصه التعيس وهو يقف وحده أمام هذه القوى مجتمعة وجرحه ينزف فلا يظفر بأسى. ولم يجد ما يرد به على هذا الاعتداء إلا ثورة مكبوتة حرمت من الإفصاح، بل أجبرته الظروف على التظاهر بالسرور كأنما يهنئ القوى الباغية على تنكيلها به، بل ونبذه خارج حدود البشرية السعيدة، فأضمر لها جميعا حنقا خالدا ترك للمستقبل أمر تكييفه وتوجيهه، أجل شعر بأنه لن يأخذ الحياة بعد تلك الزغرودة الفاصلة مأخذا سهلا، أو يرضى فيها بالقريب، أو يتسامح معها تسامح الكرم والصفاء، وأن طريقه سيكون شاقا، عسيرا، ملتويا، غاصا بالمضض والغضاضة والألم، ولكنه لم يفكر في التراجع قبل الحرب وأبى الصلح، وأنذر وتوعد، غير أنه ترك للقدر اختيار الغريم الذي سينازله، والوسيلة التي سيحارب بها. قال حسين شداد وهو يزدرد ريقه المشرب بالشربات: لا تعلن الثورة على الزواج، أعتقد - إذا أتيح لك أن تسافر كما تقول - أنك ستجد زوجة تعجبك.

كأنك لم تجد التي تعجبك هنا، ابحث عن وطن جديد لا يتأذى جنسه اللطيف بمنظر الرءوس الشاذة، والأنوف الكبيرة، إما السماء وإما الموت. قال وهو يهز رأسه كالمقتنع: هذا رأيي.

فقال إسماعيل لطيف ساخرا: أتعرف ماذا يعني الزواج من أوروبية؟ إنه كلمة واحدة «الظفر» بامرأة من أحط طبقات الشعب، امرأة ترضى بأن تكون تحت رجل تشعر في أعماقها بأنه عبد من العبيد.

حظيت بهذه العبودية في وطنك الكريم لا في أوروبا التي لن تراها.

قال حسين مستنكرا: مغالاة. - انظر إلى المدرسين الإنجليز كيف يعاملوننا!

قال حسين شداد بحماس هو بالرجاء أشبه: الأوروبيون في بلادهم غيرهم في بلادنا.

هل من سبيل إلى قوة قاهرة تبيد الظلم والظالمين؟ يا رب العالمين أين عدالتك السماوية؟

دعا الداعي إلى الموائد، فمضى الأصدقاء الثلاثة إلى السلاملك، ثم إلى حجرة جانبية تتفرع عن البهو الخلفي، فوجدوا مقصفا صغيرا يتسع لعشرة على الأقل، ولحق بهم شبان بعضهم من أقرباء آل شداد والبعض من أصدقاء المدرسة، ومع أن العدد دون الحد المقرر للمقصف وهو ما شكر عليه حسين من الأعماق، إلا أنهم سرعان ما اندفعوا إلى الطعام بقوة وعنف حتى ساد الجو نشاط السباق. وكان ينبغي لهم أن يتحركوا دواما ليطوفوا بشتى ألوان الطعام التي امتدت صحافها على طول المائدة تفصل بين كل مجموعة منها وأخرى طاقة صغيرة من الورود. ولوح حسين بإشارة من يده إلى السفرجي، فجاء بقوارير الويسكي وزجاجات الصودا، فهتف إسماعيل لطيف: أقسم أني تفاءلت خيرا بهذه الإشارة من قبل أن أعرف مغزاها.

ومال حسين على أذن كمال قائلا برجاء: كأسا واحدة من أجل خاطري.

وقالت له نفسه «اشرب» لا رغبة في الشراب فإنه لم يعرفه، ولكن رغبة في الثورة، بيد أن إيمانه كان أقوى من حزنه وتمرده. قال مبتسما: أما هذه فلا، شكرا.

صفحة غير معروفة