وارتفع صوت سليمان كأنه رجل، وأحبت سهير أن يظهر سليمان حماسته في هذا الأمر بالذات، فقد كانت تريد أن تقابل وصفي، بل إنها كانت تتوق إلى هذا اللقاء، ولكنها تريد أن تدفع إليه دفعا عنيفا يهيئ لها أن تقول لنفسها إنها لا قبل لها بالنكوص، كانت تريد أن تعتذر لكبريائها عن هذا اللقاء، وها هو ذا زوجها يدفعها، وإنه زوجها، فماذا يمكن أن تقول له، إنها ستلقى وصفي وأمرها إلى الله!
وصمتت سهير، وأدرك زوجها أن صمتها موافقة، وارتاح خاطره، وهدأ إلى مستقبل زاهر تلوح له بشائره، فهو يعلم أن وصفي إذا لقي سهير سيطيب له أن يكثر من الزيارة، وهو يعلم أن زوجته شريفة، ويعلم أن وصفي أمين الضمير، فهو لا يخشى من اللقاء مغبة، ولو كان يخشى ما أصر على هذا اللقاء، ولكنه يعلم أن سهير تحب الأدب والسياسة، وتستطيع أن تكون طرفا في الحديث يلقيه وصفي، ويعلم أنه يحبب بيته إلى وصفي، وهو يأمل أن يحب وصفي بيته.
وقامت سهير إلى حجرتها ذاهلة النظرة، شاردة الفكر، أحقا ستلقى وصفي؟! وصفي! هذا الخائن الذي ألقى بها إلى أعماق هذه الحياة التي تحياها وتصلاها، ويلتهب سعيرها في كل أيامها، وصفي! ستلقاه، إنها ستنتقم، ستنتقم، ولكن ما الذي يكفي لانتقامها، أتقتله؟ وصرخت نفسها: لا، ثم سخرت منها نفسها: وهل أستطيع؟ إذن! إذن ماذا؟ ماذا ماذا؟ كيف أنتقم؟ أتجاهله؟ وكيف أستطيع؟ سيكون ثاني اثنين: أحدهما أبكم، فكيف أستطيع أن أتجاهله؟ وماذا سيقول زوجي، إنه ليس غبيا، ألا يجوز أن يدرك من تجاهلي ما كان بيني وبين وصفي؟ ربما ظن أنني أتجاهل وصفي لأنني غاضبة لزواجه من غيري، إذن، إذن لا سبيل لي إلا أن أترك نفسي على سجيتها، سجيتها؟ سجية نفسي، أخادع نفسي؟ إنني لو تركتها على سجيتها لظهر ما تخفيه من ... من حب ... حب عميق، زاده عمقا هذا الألم الذي أقاسيه في ظلال رجل قاتم، مظلم، أصم الفؤاد، على سجيتها! ويلي من نفسي، ويلي من حبي! أبدا لن تكون نفسي على سجيتها في هذا اللقاء، أبدا لن تكون، وكيف لها أن تكون، وأنا مع اثنين، أحدهما أضاع آمال شبابي وحياتي، وأضاع الآخر شبابي وحياتي جميعا، وكيف لها أن تكون، وأنا أجلس إلى اثنين، أحدهما ألقى بي إلى السعير، والآخر هو السعير ذاته، أألقى وصفي؟! سألقاه، فما هذا الليل الطويل الذي يفصلني عن لقائه، بل هناك نهار آخر وليل آخر ثم ألقاه، لماذا لا يستمر هذا الليل ليلا أنامه، فلا أصحو إلا على لقائه، أو لماذا لا يظل النهار نهارا ألهو فيه عن شوقي بأطفالي حتى ألقاه؟ لماذا؟ لماذا؟ إنها الحياة؛ لذتها أن تسير هي طريقها المرسوم، بسرعتها المرقومة، بليل يخلف نهارا، ونهار يخلف ليلا، ونتمنى نحن وننتظر، نتحرق شوقا وننال ونمنح ونمنع، وتظل الحياة سائرة، لا شأن لها بما نريد أو ما نأمل.
الفصل الثاني عشر
تسير الأمور في الطريق الذي أراده لها سليمان، فقد جاء وصفي في موعد الغداء، وقصد إلى حجرة الجلوس التي يعرف الطريق إليها تمام المعرفة، وبعد هنيهة فتح الباب، وفي انفراجته رأى وصفي ... من؟! سهير؟! سهير، ومن ورائها سليمان، ماذا فعلت بي يا سليمان؟! حملق وصفي دهشا، حتى كاد لدهشته ألا يستطيع قياما عن كرسيه!
وأقبلت سهير جامدة الوجه، لا تبين نأماتها عن خلجة تشف عما يصطرع بنفسها من حب، وغيظ، وشوق، وإقبال، وإحجام، وتساؤل، واستسلام، وتقدم سليمان في بلاهة ومحاولة مقيتة للتظرف: أقدم إليك ابنة عمك التي لم ترها طول حياتك.
وجمع وصفي على شفتيه «أهلا وسهلا» مترددة حائرة، لا تكاد تبين، وجلس ثلاثتهم، وسليمان أثبتهم جأشا، وأروحهم نفسا، لا يدري ما يمور في نفسيهما من تيارات إن اختلفت في مجراها، فهي مندفعة عن معين واحد، نابعة من خلجات متشابهة، وراح سليمان يثرثر بحديث لم يع واحد منهما شيئا منه، حتى إذا فرغ عقله من أي حديث، ولم يجد شيئا يقوله، صمت، فانتبه كلاهما إلى الصمت الذي ران عليهم، وانتفض وصفي متمالكا أمر نفسه في دربة، وقال لسليمان: مبروك يا سليمان، ذهبت إلى الوزير وسيمنحك الدرجة، إن لم يكن قد منحك إياها فعلا. - يا سيدي متشكر. - وهل بيننا شكر؟ - سأكلم أحد أصدقائي في المستخدمين لعلي أجد عنده خبرا.
وقام سليمان في فرحة غامرة وخلت الحجرة بالمحبين، وفي عيني سهير تساؤل، وفي وجه وصفي حيرة، ولم يجد وصفي شيئا يقوله إلا: كيف أنت يا سهير؟
وجاهدت سهير نفسها حتى تقول: الحمد لله يا وصفي.
ثم جذبت شهقة من أعماق نفسها لتقول ثانية: الحمد لله، وأنت كيف حالك؟ - الحمد لله. - وكيف حال هند وجعفر؟ - بخير، وأولادك؟ - الحمد لله.
صفحة غير معروفة