وخرج سليمان غير غاضب وإن كان آسفا، فقد كان يأمل أن تتوطد الصلة بين عائلته وعائلة وصفي، فهو يطمع أن يكون وصفي سندا له في وظيفته، فقد رأى وصفي واسع النفوذ، مسموع الكلمة عند الوزراء وعند وزيره هو بالذات، ذلك الوزير الذي لم يجرؤ هو يوما على طلب مقابلته، ذلك الوزير صديق لوصفي، والعجيب أن الوزير هو الذي يسعى إلى توطيد هذه الصداقة وتثبيت دعائمها، يريد من وصفي أن يكون عونا له في الحزب وفي المجلس، ومع ذلك تأبى سهير أن تذهب لوصفي ، أو لزوجة وصفي، هو غير غاضب لأن الغضب لم يكن في طبيعته؛ فإن الغضب صديق للكرامة والعياذ بالله، وهو رجل ألف ألا يغضب كما ألف البعد عن الكرامة، هو غير غاضب، ولكنه آسف، آسف كما تعود أن يأسف دائما حين تأمره سهير فيأتمر، وهل كان له إلا أن يأتمر، إنها الزاد والمأوى، وإنها المال والقصر والضياع، حين هو لا شيء، لا شيء إلا أن يتلقى أوامرها فيطيع، وإلا أن تريد هي فيسير، غير غاضب أن استقبل أمرا لا يريده، لكنه يأسف، يأسف وينفذ، وهل كان بيده إلا التنفيذ.
ولكنه اليوم يريد أن يصل ما بينه وبين وصفي، وإن يكن قد أهمل في شكره على هداياه، وإن يكن قد تأخر في تهنئته بمولوده الأول، إلا أنه اليوم سيمحو هذا التقصير الذي كانت له أسبابه ودواعيه، فهو إن كان قد ذهب للتهنئة بميلاد جعفر كان لا بد له أن يحمل معه هدية، إن لم تكن مماثلة لهدية وصفي، فهي على كل حال ستحمله مالا، وهو لا يحب أن يبذل مالا، وهو أيضا كان لا يريد أن تتوثق العلائق بينه وبين وصفي، بعد ما كان يشاع من أن وصفي سيخطب سهير، وهو أيضا لا يحب أن يجتمع ووصفي في مجلس، فوصفي رجل من رجالات الدولة، في حين لم يستطع هو أن يصبح رجلا من رجال البيت، وهو لا يحب أن تجري المقارنة بينهما، وخصوصا إذا جرت هذه المقارنة في ذهن سهير، ثم هو أيضا لا يحب وصفي هذا الذي يتسلق إلى المجد في كبر وخيلاء، بينما لا يستطيع هو أن يتسلق درجة، درجة واحدة في سلك الوظيفة، ولو أن الأمور جرت في سبيلها السوي، لكان هو الأجدر بالرفعة، فوصفي لا يملك إلا لسانا وقلما، أما هو فمهندس درس في جامعات أوروبا، وهو رجل عملي، ما الكلام عنده إلا شقشقة عاجز، وتهويم من لا يستطيع عملا.
ولو أن وصفي ارتفع بجهده وحده، لقبل ارتفاعه هذا، ولكنه ارتفع بغناه الذي خلفه له أبوه، وبجاه أبيه أيضا الذي خلفه له في الناحية، فأصبح به عضوا بمجلس النواب، أما هو فلم يترك له أبوه إلا أوشالا من المال، استطاع بها أن يذهب إلى أوروبا، وأن يصبح مهندسا.
لهذا جميعه، كان سليمان حريصا على ألا يوطد صداقته بوصفي، ولكنه اليوم حريص على هذه الصلة، فهو اليوم فجأة ابن عم وصفي، وصديقه الأوفى، وليس لهذه الأسباب مكان.
فهو لا يحتاج إلى إهدائه شيئا، لأنه ليس من المألوف أن يتهادى القوم في التهنئات بالمناصب، وهذا في ذاته أقوى سبب كان يقف به عن التهنئة في ميلاد جعفر.
وهو اليوم لا يرى بأسا أن تتوثق العلائق بينه وبين وصفي، فقد مر على الشائعات التي كانت تربطه بسهير زمن بعيد، والزمن قادر على ابتلاع الشائعات ومحوها من أذهان الناس، وهو اليوم أيضا لا يرى بأسا أن تجري سهير المقارنة بينه وبين وصفي، فقد أصبح لها منه ولد وبنت تحبهما الحب كله، فما تملك إلا أن تظل إلى جانبهما، وهو أيضا مطمئن إلى أن زوجته لا تكن له الاحترام، لأنها من ذلك النوع الساذج الذي يقدر الكرامة ولا يقدر الحياة، ويهيم في الخيال، ولا يفكر في الواقع، حتى إنها تأبى عليه إلا أن يؤدي حق سميحة في أرضها كاملا إليها، وإن امرأة تبلغ بها السذاجة الحد الذي تأبى عنده أن تأكل أموال أختها خليقة بألا يقيم لرأيها وزنا، أما أن يتسلق وصفي إلى أعناق المجد، فالواقع الذي لم يكن يفكر فيه من قبل أن وصفي كان يجاهد الإنجليز، ويهاجمهم بمقالات مشتعلة، حتى لقد قبضوا عليه مرات وسجنوه، وسليمان لا يرى بأسا أن يصيب هذا المتهور المجنون الذي يرمي بنفسه إلى التهلكة مجدا، ما دام لم يصب التهلكة، ثم إن هذا المجد الذي بلغه وصفي مجد للعائلة كلها، وما دام هو - سليمان شكري - أحد أفراد هذه العائلة، فمن حقه أن يحظى بنصيبه فيما أصابه ابن عمه، ومن ثم فهو يستحق الدرجة.
هكذا كان يفكر سليمان حين وجد نفسه واقفا إلى باب ابن عمه وصفي ، وقبل أن ينزل من السيارة سأل البواب عن وصفي، فحين علم أنه بالمنزل ترجل وهو يطلب إلى البواب أن يبلغ سيده بمجيئه.
كان وصفي إذ ذاك جالسا إلى زوجته وابنه جعفر، وقد راح يداعبه في حنان، والطفل يبتسم لأبيه، ويحرك لسانه بكلمات لم تكتمل، فيستقبلها الأب بفرح ونشوة، ولكن هندا لم تشارك زوجها فيما هو فيه من غبطة، فهو يسألها: ما لك يا هند؟ - والله يا وصفي مشغولة بأمي. - ما لها، لا قدر الله؟ - منذ مات أبي وصحتها تزداد سوءا في كل يوم. - يا ستي، طالما رجوناها أن تترك العزبة وتأتي هنا ليراها الأطباء. - وماذا نعمل؟ إنها ترفض أن تترك العزبة وترى في بقائها هناك ما يسليها، ولكنها لا تسلو. - وهل سمعت شيئا جديدا؟ - كلمتها اليوم في التليفون، فلم يعجبني صوتها. - يا ستي لعلك واهمة، وعلى كل حال اطلبيها ثانية الليلة أو غدا، وإذا شئت سافري إليها. - وكيف أسافر؟ - ولم لا؟ - وجعفر؟ - خذيه معك إذا اقتضى الأمر! - الولد صحته لا تحتمل السفر، على كل حال سأكلمها ثانية. - لا تشغلي نفسك بلا سبب ... لعلها كانت نائمة وأيقظتها بالتليفون.
ودخل الخادم ينبئ وصفي أن سليمان في انتظاره، فتعجب بعض الشيء، ثم قال للخادم: سأنزل إليه.
وانصرف الخادم، وعاد وصفي إلى مداعبة ولده، وطمأنة زوجه، ثم قام إلى سليمان.
صفحة غير معروفة