بك أنت؟ لا، إني أعلم، لقد كن يضحكن منك لا لك، كنت سخرية الأصدقاء والصديقات، ويلي أنا، لقد كنت تقيم مع الواحدة منهن ساعة أو يوما أو شهرا، ثم تنصرف عنك، ولا يمكن أن تنصرف أنت عنها لأنك صفيق، أما أنا فالعمر، العمر كله. - تعرفت هناك ببنات كثيرات جميلات، ولكنهن طبعا لسن في مثل جمالك.
وتغازل أيضا؟ يا لها من مصيبة! إنه يستعرض أمامي مهارته مع النساء، ويغازلني في وقت واحد، كان من المفروض أن أفرح أن كان له سوابق مع أخريات، نعم والله كنت خليقة أن أتعزى لو أن هذا الذي يرويه حق، كنت خليقة أن أعزي نفسي بأن أخريات نكبن به قبلي، ولكن من أدراني أنه الحق! - أنت غيرى، أليس كذلك؟ لا، لا، لا تغاري، فقد انتهى ما كان بيني وبينهن، ولقد شئت أن أقص عليك هذا الحديث، حتى أكون صريحا معك منذ أول ليلة، هيه لا تغاري!
أغار؟ عليك أنت؟! ألم ينظر في مرآة هذا الثور؟ أنا أغار عليه؟!
وقام سليمان عن كرسيه واقترب منها في كرسيها الذي جلست إليه، وقد ألقت برأسها إلى كفيها تدير إجاباتها على زوجها في ذهنها ولا تنطق منها بشيء، اقترب سليمان من زوجته ووضع يده على كتفها، لم تكن رأته وهو يقوم عن كرسيه مقتربا منها، لم تر شيئا من هذا، ولم تحسه، لم تحس إلا بيده تهبط على كتفها، فلم تشعر بنفسها إلا وهي في آخر الغرفة، تصطك أسنانها من المقت والخوف، محدقة فيه مذعورة، لا تنطق بلسانها شيئا، وإن كانت عيناها قد نطقتا بكل شيء.
ولم يكن سليمان يفهم من لغة العيون شيئا، وإنما قال في نفسه «إن أمي خبيرة، إنها تدرك الذعر الذي تلتقي به العروس في ليلة زفافها الأولى». •••
وفي الصباح بكرت سهير تخرج من غرفتها، وتركت زوجها نائما هادئ البال مطمئنا، لم تجد أحدا صاحيا، فاتخذت لنفسها مكانا في البهو، وراحت تفكر فيما أصابت به نفسها، وحاولت جهدها أن تنفي عن نفسها هذه الأفكار، ولكن الأفكار كانت أقوى منها، فهي تمور بعقلها في ثورة عارمة، فليس لها منها نجاة.
قامت سهير تتمشى في أرجاء البيت، وقصدت إلى الشباك المطل على باب البيت والشارع، وكانت الحياة قد بدأت تدب هونا في الطريق، فبائع الفول يدفع عربته، لم تتحلق حوله الخادمات والخدم بعد، وبائع اللبن يسير حاملا بيده إناء اللبن، وفوق رأسه ذلك اللوح الكبير الذي استقرت عليه أطباق القشدة وأوعية لبن الزبادي الفارغة، والموظفون يسيرون فرادى، والتلاميذ يسيرون جماعات، وعم إدريس يصلي، وقد وضع بجانبه موقدا من الفخار اشتعلت فيه النار واستقر عليه إناء الشاي والعيش، ورأت سهير النار تشتعل وتكاد تلتهم العيش، فما يملك عم إدريس إلا أن يخرج من الصلاة بغير انتهاء، بل إنه حتى لا يستأذن ربه في الخروج من ساحته بأن يلقي السلام على الملائكة الذين يحفون به وهو قائم، لا يفعل شيئا من هذا، بل هو يترك الصلاة في جزع عاجل وينكفئ على النار، يختطف منها العيش أن تلتهمه قبله، وتلوح ظل ابتسامة على شفتي سهير، كانت جديرة بأن تكون ضحكة عريضة، لولا ما بالقلب من ألم، وتظل سهير رانية إلى عم إدريس وإلى الشارع، وقد ماجت فيه الحياة وتسارعت فيه الخطوات، وجرت به العربات تجرها الجياد، مطهمة حينا أو كسيرة وانية الخطو حينا آخر، وقد ترى من حين إلى حين سيارة تخترق الطريق في زهو، مدلة بسرعتها وأناقتها، فتلقاها الخيل وسائقوها بكبر، كبر صاحب الأصل الدارس صار إلى الفقر، ولا يزال متشبثا بأصله العريض، وإن يكن قد تهدى إلى فقر وإرهاص بزوال.
واستطاعت الحياة أن تلهي سهير عما يمور بنفسها بعض الحين، فلم تنتبه من وقفتها إلا على عربة مطهمة الجياد تقف أمام بيتهم وينزل منها ابن خالها سامي عبد الحميد، أمل أختها سميحة وفتاها، وحين تركت النافذة خشية أن يراها سامي ، سمعت جرسا يدق، فأدركت أن أباها قد صحا، فذهبت إلى غرفته، وقالت وهي تفتح الشباك، وقد حملت جرائد الصباح في يدها: صباح الخير يا أبي.
وقال الأب في بعض دهشة: صباح الخير يا بنتي، صباح الخير يا عروسة!
وكانت سهير قد أصبحت بجانب سرير أبيها، تضم الكلة المسدلة عليه، وهي تقول: أرجو أن تكون قد نمت نوما هانئا؟! - أرجو أن تكوني أنت قد نمت نوما هانئا، لقد صحوت مبكرة يا سهير، خير يا سهير. - خير يا أبي. - قولي يا سهير، هل أنت مرتاحة؟
صفحة غير معروفة