57

القرن العشرون

تصانيف

وما الذي يمنع أن يكون التدين اجتهادا يبلغ فيه الإنسان ما هو قادر على إدراكه طبقة بعد طبقة وجيلا بعد جيل.

وما الذي يمنع أن يكون «الشر» أدل على فضل الحياة والحرية من خلق الناس كما تصنع القوالب وتخرط الحدائد والأخشاب.

إن تلك الكشوف العلمية لا تطوي صفحة الدين إلا إذا أسيء وضع القضية، وفهم الدين على أنه بضاعة فئة من الناس يروجونها، ولا يحفل أحد غيرهم برواجها أو كسادها، بل عليهم أن يحترسوا منها كما يحترس المشتري من تاجر ماكر يبيعه ما لا يحتاج إليه.

إلا أنها إذا وضعت في موضعها، وفهمت على أنها قضية الوجود والحياة، فكل ما كشفه العلم وما سيكشفه خليق أن ينشر منها كل يوم صفحة جديدة، ويفتح منها كل مرة بابا لم يكن قبل ذلك بمفتوح للباحثين، وقد فهمت تلك الكشوف على هذه الصفة حديثا فلم ينكر الفكر مكان الكرة الأرضية في وسط المنظومة الشمسية، بل رأى فيها آية من آيات الحكمة الإلهية أقرب إلى التصديق من زعم الزاعمين أنها مستقرة في مركز الكون، وأن القائلين بانحرافها عن ذلك المركز يبطلون القول بحكمة النظام في الأرض والسماء، وحكمة خلق الإنسان في موضعه من ذلك النظام.

لو كانت الأرض ترتج من فزع أبنائها لارتجت فعلا من فزع المتدينين الجامدين يوم سمعوا أنها كرة، وأنها تدور ولا تستقر في مكانها من مركز الوجود، ولكن الكرة الأرضية خرجت من ذلك المركز المزعوم ودارت في مدارها بين السيارات، فتمت لها في هذا المدار شرائط الحياة، واستعدت بذلك لظهور الأحياء عليها، وإظهار البرهان القوي على الحكمة والقصد، من حيث لا يظهر للعقل من إثباتها في مركزها القديم.

لم توسطت بمدارها بين أقصى البعد من الشمس وأدنى القرب منها، وبين أقصى البرد وأقصى الحرارة؟

ولم توسطت في حجمها بين الضخامة التي تشل حركة الأجسام بوطأة الجاذبية الثقيلة وبين الخفة التي تطلق الموجودات عنها إلى الفضاء ولا تمسك حولها بالجو الصالح للحياة؟

ولم اختلف عليها النور والظلام فتيسرت فيها تراكيب الكيمياء التي لا تتيسر مع أطباق النور أو أطباق الظلام؟

ليكن تعليل هذه الأحوال على الوجه الذي ترتضيه عقول الباحثين فيها من جوانب النظر المتباينة، فإنما نحن على كل وجه من وجوه التعليل أمام صفحة مفتوحة للبحث في أسرار الخلق لم يطوها القول بخروج الأرض من مركز الكون المزعوم إلى مدارها المتنقل بين السيارات، وهكذا تبقى القضية التي خيل إلى المنكرين في القرن السادس عشر أنها قضية سقطت فيها الدعوى وبطل فيها الخلاف، وهكذا مضت عدة قرون ولم يبتعد العقل في القرن العشرين من الإيمان بمقدار نصيبه من المعارف والكشوف، بل هو أحرى أن يبتعد من الإنكار كلما اطلع على كشف جديد من كشوف العلم الحديث، وأحرى بالعصر الحاضر أن يسمى عصر الشك في الإنكار، إذا قيل عن العصور القريبة الماضية إنها عصور الشك في الإيمان. •••

ولا ندري ماذا تصنع ثلثمائة سنة أخرى بمسألة الإيمان والإنكار في نظر العقل والبديهة بعد هذه الخطوات التي خطاها الفكر الإنسان منذ القرن السابع عشر إلى هذا القرن العشرين، ولكن المشاهد أن أفكار المعاصرين قد استفادت كثيرا من تحويل المسألة من مسألة جدل وملاحاة بين العلماء وأدعياء الدين المحترفين إلى مسألة إنسانية ، يضيرنا أن نهملها، ولا ينفعنا أن نكتفي فيها بالتفتيش عن سخافة الجامدين والجهلاء.

صفحة غير معروفة