ظهرت الحاجة في مصر لتوضيح علاقة البلاد بإنجلترا، ظهر في الخطب التي ألقاها زعماء الأحزاب المختلفة في البلاد أن مركز إنجلترا في مصر سيجلب على مصر ضررا وبيلا، دون أن تستفيد منه البلاد أقل فائدة، وطالب الرأي العام بتكوين جبهة متحدة، واضطرت إنجلترا في الواقع أن تبين سياستها نحو مصر، وفي خطابين ألقاهما سير سميول هور في 9 نوفمبر، و5 ديسمبر سنة 1935 أعلن فيهما أن إنجلترا لم تسع إلى استغلال الموقف الحاضر لخدمة مصالحها على حساب المصالح المصرية، وأن بريطانيا تعطف على الأماني المصرية.
ولكن الخطابين لم يجدا قبولا في مصر لموقف الحكومة الإنجليزية بإزاء دستور سنة 1923 بأنه غير مناسب، ولإعلان سميول هور بأن الوقت لم يحن بعد للمفاوضات الفعلية لتحديد علاقة إنجلترا بمصر.
فثارت في مصر احتجاجات عنيفة؛ لأن معنى التصريح البريطاني أولا : أن إنجلترا لا زالت مصرة على التدخل في الأمور الداخلية للبلاد، وثانيا: أن مسألة حيوية لمصر، هي مسألة حياة أو موت لها تضعها إنجلترا في المرتبة الثانية بعد العلاقات الإيطالية الإنجليزية، وتذكر المصريون رفض إنجلترا لمناقشة المسألة المصرية مع وفد مصر في سنة 1919.
ولكن في سنة 1919 كان مركز إنجلترا أقوى بكثير من مركزها في سنة 1935، فلقد خرجت إنجلترا من الحرب العالمية الأولى منتصرة تعنو لها الوجوه، بينما في سنة 1935 كانت إنجلترا مهددة بحرب لا تعرف منتهاها.
وعلى أي حال، دعا موقف إنجلترا هذا إلى تآلف الجهود في مصر وتكوين جبهة متحدة، عند ذلك، بينت إنجلترا أنها لا تمانع في رجوع دستور سنة 1923، وعاد الدستور، وجاءت حكومة الوفد. وكانت الحكومة المصرية الجديدة تريد أن تقيد بريطانيا بما وصل إليه اتفاق سنة 1930، وخاصة الاتفاق على المسائل الحربية، وأن تتركز المفاوضات الجديدة في المسائل التي اختلفت عليها، وهي مسألة السودان.
ولكن مستر إيدن وزير الخارجية البريطانية الجديد عندما وافق على فتح باب المفاوضات، صمم على أن تنظر المسائل الحربية من جديد، هذه المسائل التي كان قد اتفق عليها، فجاء هذا التصميم من الجانب الإنجليزي صدمة جديدة لمصر، ولقد برر الإنجليز ذلك الموقف على أساس أن مشروع سنة 1930 لم تصبح له قوة المعاهدة، وأن الموقف الاستراتيجي العالمي في سنة 1936 قد تغير كثيرا عن الموقف في سنة 1930، فالإيطاليون يهددون ليبيا والقناة، وعززت قواتهم في غربي مصر في ليبيا، وعلى جانب حدود مصر والسودان من ناحية الحبشة، وهذا الموقف الجديد لم يكن يتكهن به الساسة الإنجليز أو المصريون في سنة 1930.
ولكن الصدمة الكبرى كانت عندما قدم سير مايلز لامبسون المعتمد البريطاني في مصر موافقة مستر إيدن على فتح باب المفاوضات، إذ بين المعتمد البريطاني بأنه إذا فشلت المفاوضات هذه المرة، فإن بريطانيا ستعيد النظر في موقفها بإزاء مصر، فكان هذا تهديدا صريحا لمصر، وكان المصريون يؤملون قبل وصول ذلك التهديد بأنه إذا فرض ولم تصل المفاوضات إلى نتيجة، فتعود الحالة في مصر إلى ما كانت عليه قبل الدخول في المفاوضات.
وعلى أي حال وافق الطرفان على بدء المفاوضات، وضمت إنجلترا إلى جانب معتمدها في مصر الفنيين من كبار رجال الحرب والبحرية والطيران، وتكون الجانب المصري من زعماء مصر جميعا.
وبدأت المفاوضات في جو من التشاؤم، ولكنها نجحت، والفضل في ذلك يرجع إلى موسوليني بطريقة غير مباشرة، فلقد زادت مطامع إيطاليا، وزادت مطالبها في البحر الأبيض المتوسط، فأثارت مخاوف المصريين والإنجليز معا.
وعندما افتتحت المفاوضات بدئ بالأمور الحربية وهي التي تهمنا في هذه الدراسة لاتصالها بمسألة قناة السويس، واصطدمت آراء الفريقين، ولم يستطيعا الاتفاق في أول الأمر، ورأى سير مايلز أن يسافر إلى لندن ليتصل بحكومته، وأنقذت هذه الزيارة الموقف حينذاك، ولقد بينت صحيفة «التيمز» في 10 يونيو - بتلخيص: أن السبب في تعثر المفاوضات هو غلو الهيئات العسكرية البريطانية في طلباتها، وأوضحت سخف الفكرة التي تقول بضرورة تنفيذ مطالب إنجلترا كاملة، مائة في المائة، ضد عواطف وشعور شعب ناهض اعترفت إنجلترا ذاتها باستقلاله منذ أربعة عشر عاما، وأن أية معاهدة أريد نجاحها فيجب أن تعمل هذه المعاهدة على احترام شعور المصريين القومي، ويجب أن تقوم حرية التفاوض لا على قوة الإملاء، وإنما على الثقة المتبادلة بين الجانبين، فلا تكون عن طريق إرغام الجانب الآخر المفاوض على التنازل عن حقوقه، وأن على الحكومة البريطانية ألا تصغي لآراء العسكريين فحسب، ولكنها تشاورهم وتراعي في نفس الوقت أهمية المسائل السياسية بجانب الاعتبارات الحربية.
صفحة غير معروفة