شمل المنشور الذي أرسله دي لسبس إلى ممثلي الدول في باريس هذه النقط، وأكد أهمية المحافظة على حياد القناة لكل الدول التي لها تجارة تمر بالقناة، وبين المنشور كذلك أن قائد البحر الإنجليزي لم يأبه لهذا، بل وأعلن أنه سيتخذ كل الوسائل لاحتلال القناة، ووضح المنشور أن المظاهرات الحربية التي يقوم بها قواد البحر الإنجليز من شأنها إثارة الأهلين، وبهذا تدخل القناة في منطقة الحرب.
ويرى دي لسبس في ذلك المنشور أن الحل الوحيد لمسألة القناة يتركز في حماية بحرية تشترك فيها كل الدول دون إنزال جنود على ضفتي القناة أو احتلال لأجزاء منها، وفي مثل هذا الإجراء - إذا اتخذ - محافظة على حياد القناة الذي أقره السلطان صاحب السيادة.
على أن هذا المنشور الجديد لم يثبط من عزيمة إنجلترا، فلقد طلبت الحكومة الإنجليزية من شركة القناة أن تفضل مرور السفن الحربية البريطانية على السفن الأخرى، وبينت أن إنجلترا ستلجأ حتما إلى القوة لتنفيذ ذلك، إذا رفضت شركة القناة الموافقة على ذلك الطلب، وأعادت تحذيرها للحكومة الفرنسية بشأن العراقيل التي يبثها دي لسبس أمام إنجلترا.
وأرسل جرانفل في 14 أغسطس إلى الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة شركة القناة يطلب منهم أن يقوموا بتفسير أعمال بريطانيا الحربية في القناة لمجلس إدارة الشركة على النحو الآتي:
لقد أصبح من الضروري أن تعمل إنجلترا متعاونة مع الخديو والسلطان، وذلك بإنزال قوات على ضفاف القناة، وفقا لمواد 9، 10، 11 من امتياز 22 فبراير سنة 1866 الخاص بالقناة، والذي صدق عليه السلطان في 19 مارس من هذه السنة 1866 احتفظ والي مصر لنفسه بحقوق تنفيذية في القناة وكل متعلقاتها، ووفقا لهذا الحق سمح والي مصر الحالي لقائد القوات البحرية البريطانية في بورسعيد باحتلال الأماكن الواقعة على القناة التي يراها ضرورية لحماية المرور في القناة وحماية المدن والسكان في منطقتها، والقضاء على كل قوة لا تعترف بسلطته، واستتبع هذا احتلال قوات إنجلترا البحرية لمدينة السويس التي كانت مهددة بالتدمير «وكانت إنجلترا في ذلك الوقت ترى أن هذه المدينة تقع خارج منطقة القناة»، ثم احتلال مدينة الإسماعيلية لحمايةالقناة وما حولها، ولإرجاع النظام إلى مصر، ونظرا لوجود القوات المعادية لإنجلترا قرب القناة، فالحكومة البريطانية إذن مضطرة إلى تركيز عدد كبير من القوات في هذه المنطقة.
وطلبت الحكومة البريطانية أيضا أن تقوم الشركة بتقديم كل التسهيلات الممكنة لمرور ناقلات الجنود، وأن تقدمها على كل السفن الأخرى، وكذلك طلبت الحكومة البريطانية من الأعضاء الإنجليز في مجلس إدارة الشركة أن يحذروا الشركة عواقب الوقوف أمام طلبات إنجلترا وتجاهل أوامر الخديو صاحب الحق الشرعي في البلاد.
هكذا بررت الحكومة الإنجليزية مسلكها بإزاء القناة، ولجأت إلى التهديد باستخدام القوة إذا وقفت أمامها شركة القناة.
ولم يكن أمام شركة القناة إلا أن تلتجئ إلى الحكومة الفرنسية، ولكن الحكومة الفرنسية كانت نفسها - كما رأينا - ميالة إلى التدخل مع إنجلترا لحماية القناة، لولا معارضة البرلمان الفرنسي لها، فهي من ناحية المبدأ لا تستطيع أن تنتقد مسلك إنجلترا في هذه المسألة بالذات ولا أن تؤيد شركة القناة، وبعد ذلك فالحكومة الفرنسية في مركز ضعيف لا تحسد عليه، ليست لها حرية التصرف في الأمور الخارجية والأمور التي تستلزم استخدام القوة، أما الدول الأخرى، فما كانت شركة القناة تستطيع أن تتقدم إليها طالبة المعونة أو التأييد، فهذه الدول ليست لها مصالح مهمة في القناة أو مصر تدعوها للتدخل لنجدة الشركة، فهي إذن ليست حريصة على عرقلة إنجلترا، وأما الدولة العثمانية صاحبة السيادة، فهي أضعف من أن تتحدى الحكومة البريطانية، وأما حكومة الثورة وعلى رأسها عرابي باشا، فلم تتخذ أية إجراءات لحماية القناة أو لمنع العدوان الإنجليزي على شرقي مصر، بل تركت منطقة القناة بغير دفاع.
وانتهز الإنجليز هذه الفرصة فاحتلت قواتهم البحرية منطقة القناة جميعها، وأوقفوا حركة المرور في القناة، واستطاعت الحملة الإنجليزية بقيادة سير جارنت ولسلي أن تعبر القناة آمنة مطمئنة وأن تستند إلى القناة كقاعدتها الأساسية في غزو مصر.
وفي هذه الأثناء كان مؤتمر الأستانة مستمرا في جلساته، ثم أنهى هذه الجلسات بعد أن وافق على تعاون الإنجليز والأتراك في حل مسألة مصر، واستمرت المناقشات بين الإنجليز والأتراك على نوع وحدود التعاون بينهما، واشترط الباب العالي ألا يتعدى الجنود الإنجليز حدود مدينة الإسكندرية! وألا يلبثوا في الإسكندرية أكثر من ثلاثة شهور، وتقدمت الحكومة الإنجليزية من جانبها باقتراحات هي في الواقع أوامر بألا تزيد القوة العثمانية على خمسة آلاف رجل، وألا تتحرك في مصر إلا بموافقة قائد القوات الإنجليزية.
صفحة غير معروفة