وهذا تابع للذوق؛ لأنه هو الذي ندرك به النكت، فكلما رقي الذوق استلطف النكت الراقية واستسخف النكت العارية، ونظير ذلك الذوق في الملابس فالقروية يعجبها الأحمر القاني أو الأصفر الفاقع، والقروي يعجبه الألوان الزاهية على حين أن الممدن والممدنة تعجبها الألوان الباهتة.
كما نلاحظ أن النكت تختلف باختلاف مقدار ثقافة الأوساط؛ فالجماعة المثقفة ثقافة عالية تعجبها النكت العقلية والنكت التي تثير التبسم لا الضحك، والنكت التي تستدعي الإعجاب لا النكت المؤسسة على الهجاء، ومن هم أقل ثقافة تعجبهم النكت المبنية على اللعب بالألفاظ ويعجبهم التصريح وتعجبهم مرارة النكتة وهكذا، ثم إن النكت ركن أساسي في كل أدب، فمن قديم أولع الأدباء بالمضحكات يحلون بها كتابتهم، ويسترضون بها قراءهم ولا نعلم أدبا خلا من هذا الضرب من القول، فمن أشهر أنواع الأدب وأكثره ذيوعا روايات المهازل «الكوميديا» وأساسها ومحورها النكت المضحكة والنقد اللاذع، وكان لها حظ كبير في الأدب اليوناني، وسارت على نهجه الآداب الأوربية.
والأدب العربي غني بالنوادر والنكت، ومنذ فجر الإسلام عني الأدباء بتدوين النكت عنايتهم بتدوين المواعظ وترجموا لأشعب المضحك كما ترجموا لجرير والفرزدق والأخطل، فلما جاء عصر التأليف كان للجاحظ وابن قتيبة فضل كبير في توجيه المؤلفين إلى الناحية المضحكة في الأدب، فالجاحظ يؤلف ما يضحك كرسالة «التربيع والتدوير» ويروي ما يضحك في ثنايا كتبه، وينبه إلى أنه إنما يفعل ذلك ليزيل عن القارئ «السأم».
وابن قتيبة في أول كتابه «عيون الأخبار» يقول: إنه حلاه بالنوادر الطريفة والكلمات المضحكة ليروح القارئ من كد الجد وتعب الحق، فالمزح إذا كان حقا وكان في أحايينه وأوقاته فرج عن النفوس وبعثها على النشاط.
ومما يؤسف له أن الذين كتبوا في تاريخ الأدب العربي على النمط الحديث لم يعنوا ببحث هذا الباب عنايتهم بغيره، فقد عقدوا أبوابا لدراسة الشعر ولدراسة المقامات والرسائل ولم يعقدوا بابا للفكاهات يدرسون فيه تطورها مع أنها جزء هام من الأدب كأهمية الشعر والخطابة.
وفي الحق أن تاريخ الفكاهة هو تاريخ الأدب وجد معه منذ نشأته وترقى أو انحط أيام رقيه وانحطاطه، وكانت عناية الفرنج بالفكاهة ودراستها في أدبهم وتاريخه أكثر من عنايتنا في أدبنا، وعرض لها النقاد عندهم كما عرضوا لكل أنواع الأدب وطبقوا على النكت ما قالوه في الفن الجميل، فكما قالوا «الفن للفن» قالوا «النكتة للنكتة»، والذي يدرس الذوق في الأمة ويريد أن يتعرف مقدار رقيه وانحطاطه يجب أن يدرسه في الفنون وفي الملابس وفي الأزياء وفي النكت.
وفي المصريين من يحترفون قول النكت واختراعها وروايتها، ومن هؤلاء من يدعون للحفلات يملأونها سرورا وضحكا، ومنهم من يقتصر في ذلك على صحبه وأصدقائه يؤنسهم في مجالسهم الخاصة ويروي لهم كل ما اخترع من النكت، ومنهم من يحترفه من ناحية التحرير في الصحف والمجلات الفكاهة، وقد وصف المرحوم قاسم أمين رجلا من هذا الطراز فقال: أتعرف حسين بك؟؟ لا، رجل خفيف ولطيف، لا تغيب البشاشة عن وجهه ولم يره أحد قط غير مبتسم إذا قال لك نهارك سعيد ضحك، وإذا أخبرته أن الهواء طيب ضحك، وإذا سمع أن زيدا مات ضحك، زينة المجالس وأنيس النوادي يرى نفسه مكلفا بوظيفة السرور فيها ومنوطا بنشر التفريح حوله، يستخدم كل شيء لتسلية نفسه وأصحابه فيجد في أهم الحوادث موضوعا للتنكيت وفي أحسن الرجال محلا للسخرية، لو ضحيت حياتك في أشرف الأعمال فلا بد أن يفتش فيها عن الجهة التي يتخذها واسطة للاستهزاء وجعلها أضحوكة للناس.
ولم يعجبه هذا الشكل فقال : «بين هذا الهذيان القبيح والانتقاد الهزلي الصحيح فرق عظيم، فالانتقاد الصحيح يصدر عن علم وشعور وذوق سليم ينظر إلى مواضع العيوب في الإنسان وجهات الضعف في الحوادث، فيبتسم بالسكون واللطف، وإذا علا صوته للضحك فليس لأن الضحك غاية في نفسه، بل يعده وسيلة للفت النظر إلى شيء يحزنه وأمر يبكيه.» ... إلخ.
ولعل هذه الكلمة من المرحوم قاسم أمين كتبت في ظروف قاسية؛ إذ كان هناك هازلون يوجهون إليه نقدا لاذعا لموقفه في تحرير المرأة وآخرون يوجهون مثل ذلك للمرحوم الشيخ محمد عبده، وكانوا في نقدهم يسبون أفحش السباب وينقدون ألذع النقد. •••
ولأولاد البلد طرق في التنكيت، فأحيانا يدعى شخصان للمبارزة في النكت وأيهما غلب حكم عليه، ويستعملان في ذلك طرقا مختلفة ويسمى ما تدور عليه النكت بالقافية، ومن أشهر هذه الطرق أن يقول أحدهما جملة ويرد الآخر إيش معنى ثم يرد الأول، مثال ذلك:
صفحة غير معروفة