قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية

أحمد أمين ت. 1373 هجري
182

قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية

تصانيف

ووردت الأخبار بورود الفرنسيس إلى دمنهور ورشيد، وازداد الرعب، وكانت العلماء عند توغل الفرنسيس يجتمعون كل يوم بالأزهر ويقرءون البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ الطرق الأحمدية والرفاعية والبرهامية والقادرية والسعدية، وغيرهم من الطوائف، وأرباب الأشاير، ويعملون لهم مجالس بالأزهر، وكذلك أطفال المكاتب، ويذكرون اسم اللطيف وغيره من الأسماء، ولما وصل الخبر إلى الأمراء شرعوا في نقل أمتعتهم من البيوت الكبار المشهورة إلى البيوت الصغار التي لا يعرفها أحد.

واستمروا طول الليل ينقلون الأمتعة ويوزعونها على معارفهم وثقافتهم، وأرسلوا البعض منها إلى بلاد الأرياف، واستحضروا دواب للشيل وأدوات الارتحال، ولما رأى أهل البلد ذلك تخوفوا وخرج الجميع لبر بولاق، وكانت كل طائفة من طوائف الصناع يجمعون الدراهم من بعضهم وينصبون لهم خيامة، أو يجلسون في مكان خرب، أو مسجد، ويرتبون لهم ما يصرف عليهم وما يحتاجون إليه من الدراهم التي جمعوها.

وبعض الناس يتطوع بالإنفاق على البعض الآخر، ومنهم من يجهز جماعة من المغاربة أو الشوام بالسلاح، والأكل وغير ذلك بحيث إن جميع الناس بذلوا وسعهم وفعلوا ما في قوتهم، وخرجت الفقهاء وأرباب الأشاير بالطبول والزمور والأعلام والكلبات، وهم يدقون ويصيحون، ويذكرون أذكارا مختلفة، وصعد السيد عمر نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بيرقا كبيرا سمته العامة «البيرق النبوي»، فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق، وأمامه وحوله ألوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح، ولم يبق في القاهرة إلا النساء والصغار وضعفاء الرجال، والطرق معفرة من عدم الكنس والرش.

وأما بلاد الأرياف فإنها قامت على قدم وساق يقتل بعضهم بعضا، وينهب بعضهم بعضا وغارت العرب على الأطراف والنواحي وصار قطر مصر من أوله لآخره في قتل ونهب وإغارة على الأموال، وإفساد المزارع، وغير ذلك من أنواع الفساد.

وكان الرجال متنافرة قلوبهم، منحلة عزائمهم، مختلفة أمراؤهم، حريصين على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم، مغترين بجمعهم، محتقرين شأن عدوهم، مرتبكين في رويتهم مغمورين في غفلتهم؛ وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم ... إلخ. •••

ويدل على أخلاقهم أيضا في الحرب ما ذكره محمد «باشا» شفيق في الثورة العرابية؛ إذ قال: شعر «عرابي» باشا ورفاقه بالحيف الواقع عليهم وعلى أمثالهم من جراء التمييز بين المصريين والشراكسة والأتراك، فألفوا مظاهرة، فازدادت قوتهم، واختلف النظار بين معاملته هو وإخوانه بالشدة، أو معاملتهم باللين والحسنى، واغتر عرابي بما كان يسمعه من رعاية الخليفة له وعنايته به، واجتماع الناس حوله، فاعتقد أنه زعيم مصر الأكبر، وخيل إليه أنه صار صاحب الكلمة النافذة، وأنه إليه يرجع الأمر كله دون الخديو وحكومته؛ وطاف في البلاد يستميل الأهالي ويتألفهم ويبث فيهم دعوته.

ولم يقف غرور عرابي عند حد حكومته، بل رسخ في ذهنه أنه لا خوف عليه من وقوف فرنسا وإنجلترا في سبيله، لما بينهما من منافسة في السياسة المصرية، مع أن الدولتين كانتا على وفاق فيما يتعلق بمصر.

وبناء على ذلك أرسلوا لجناب الخديو خطاب مؤداه: أنهما يكفلان استمرار السلم والسكون في البلاد المصرية، وأنهما متفقان على الاشتراك في السعي من دفع كل ما من شأنه أن يحدث في مصر ارتباكا، فأثارت هذه المذكرة غضب العرابيين، وسخط الباب العالي، وفهم عرابي من ذلك أن الخديو توفيق قد انضم إلى الدولتين، ثم قامت الثورة، فتدخل الإنجليز حربيا بدعوى إقرار السلام والمحافظة على سلامة الخديو، وخشي العلماء وبطريرك الأقباط والأعيان والتجار استمرار الإضرابات، فأرادوا التوفيق بين الخديو وعرابي فلم يمكن وأخيرا صار عرابي باشا الحاكم بأمره، وقامت الثورة الفكرية، وحدثت المذابح في الإسكندرية، واشتبك عرابي مع الإنجليز، وانهزم العرابيون بعد قليل، وقد ذكرنا من قبل ما أشيع في أيام الثورة عن البيضة التي باضتها الدجاجة ومكتوب عليها ما يستفاد منه النصر، والأعلام المنسوبة على السيد البدوي وإبراهيم الدسوقي وسيدي عبد العال.

ولم يقف جيش عرابي في التل الكبير طويلا، فقد انهزم جيشه سريعا، ووجد الإنجليز أن العرابيين أهملوا الطريق بين الصالحية والتل الكبير، وتركوه خاليا من نقط الدفاع؛ ولم يطل القتال أكثر من عشرين دقيقة، وأسفر عن انهزام العرابيين شر هزيمة، بعد أن قتل منهم نحو ألفين، وأسر نحو ذلك.

وما برح الإنجليز يتقدمون، والعرابيون مستغرقون في نومهم، فحاول عرابي أن يستوقف الفارين، ويستفزهم إلى القتال والدفاع فلم يمكنه ذلك؛ لأن الذعر كان قد دب في قلوبهم، ففر عرابي لينجو بنفسه وكان الإنجليز كلما تركوا نقطة أقاموا فيها دورية للمحافظة عليها ثم كان من أمر الثورة وفشلها ما كان.

صفحة غير معروفة