غير أن الدهر رحم ذلك الوالد المسكين، فلم يشأ أن يزج شيخوخته في أعماق الأحزان، فلم تكن إلا أيام قليلة حتى تماثلت ابنته، وأذن لها الأطباء بالتنزه في الحديقة، ومقابلة المقربين من أصدقائها.
فتهلل فريد سرورا بسلامتها، وما صدق أن أذن له في مشاهدتها حتى أقبل إليها وفؤاده يخفق جذلا وتأثرا، وعيناه تترجمان عن شدة حبه واحترامه لتلك الملائكية التي أكسبها السقام جمالا غير جمالها، فكانت على ما بها من صفاء اللون ونحول الجسم فتنة للناظر وموضوعا لتغزل الشاعر.
فقابلته باسمة ومدت له يد شفها السقم، فبدا للعين جمال تكوينها وتناسق أعضائها، فقبض عليها مسلما وهنأها بالسلامة، ثم دعته إلى الجلوس، ودارت بينهما الأحاديث، فكان يورد على مسامعها من العبارات المضحكة والنكات المستملحة ما خفف كربها، وأنعش نفسها، فارتاحت لمؤانسته، وأصبحت منذ ذلك الحين تميل إلى مجالسته.
غير أن الضربة التي أصابت فؤادها، وجرحته جرحا غير قابل للاندمال، قضت على آمالها بما لم تر معه بدا من الصبر والاحتمال، فتجلدت على هذا المصاب الأليم بعد أن تأكدت خيانة عزيزها، وفقدها لحبيبها الذي أضحى في اعتبارها كميت لا تفيد فيه العبرات، ولا تعيده الزفرات، وأصبحت منذ ذلك الحين تميل إلى معاشرة الأصدقاء، وترغب في الأحاديث السارة، بعد أن كانت تفضل الانفراد بأحزانها، وخيبة آمالها، والانزواء في سجن ريبتها وآلامها.
وقد شعرت حينئذ بحاجة إلى صديق يواسيها، ويضمد جراح قلبها الكسير، فتذكرت ماري، وتمنت لو أن المصاب اقتصر على فقد خطيبها، ولم يتجاوز إلى صديقتها التي كانت تجد فيها شريكة تشاطرها الغم وتقاسمها الألم، ولبثت على حالها من الوحدة والكرب، وليس لديها سوى فريد الذي ما برح يتردد إليها صابرا على مضض نفارها صبر الكرام، قانعا منها بغنيمة النظر وما قل من الكلام.
وبعد مرور الأيام، وطول عهد المصاب، أصبحت أقل نفورا من معاشرته وأكثر ميلا لاستماع أحاديثه التي لم تكن تخرج عن دائرة الفكاهة والأدب.
الفصل السابع عشر
الصديقتان
أقبل الصيف يجر أذيال نسماته الحارة بما يذيب، وهب الناس للاصطياف. وكذلك أسرة حبيب، فقد صمموا على السفر إلى ربوع لبنان، أما فريد فأبى مرافقة والده وشقيقته مفضلا البقاء في مكان يستنشق مع نسماته أنفاس حبيبته مستعلما عن أحوالها، وسير علتها من وقت إلى آخر، وقد ناب عنه في صحبتهما عزيز، إذ لم يكن لديه من الأعمال ما يحول دون سفره.
ولما حان وقت السفر ذهبت ماري لوداع صديقتها، وحالما رأتها أبدت مزيد الأسف لما رأته فيها من آثار السقام، وأسرعت فطوقتها بذراعيها، وقبلتها بلهفة وحنو، وهي تقول لها وفي صوتها رنة حزن: أواه أيتها العزيزة، إني لم أكن أتصور أن أراك على هذه الحال من الضعف والهزال، فلقد حضرت مرة لزيارتك بعد أن بلغني خبر انحراف صحتك، فلم يؤذن لي بمشاهدتك، فكنت أعود بصفقة الخاسرين مواصلة الاستفهام عنك من وقت إلى آخر، إلى أن قيض لي مشاهدتك اليوم، فالحمد لله على سلامتك.
صفحة غير معروفة