أكشاك وسلوقية - سومر والإغريق! أجل، قد وجدوا في بعض ما تبقى من حياط البيوت آثار هندسة مختلطة تجمع بين أساليب شرقية ويونانية. وبعضها انتقل بعدئذ إلى الفرس الساسانيين والعرب المسلمين. ولا تزال أمثلة منها قائمة في إيوان القصر في تيسفون وفي خرائب الحضر. إنه لعلم جليل.
على أن البعثات الأثرية لا تعمل للعلم فقط. فهناك المتاحف والجامعات التي انتدبتها، وهناك تزاحم بينها وتفاخر، وهناك نفقات لا بد مما يقابلها في الأقل من التحف والآثار. لذلك لا تكتفي البعثة بكشف قبر واحد أو عشرة قبور، لا سيما إذا كان فيها آثار نفيسة، وإن تشابهت، فقد كشفوا في سلوقية مائتي قبر، وعثروا فيها على مائتين وخمسة وسبعين شكلا من الأواني الخزفية، وعلى خمسين شكلا من القناديل البرثية (الأشكانية)، فضلا عن التحف والحلي.
خناجر وأسلحة مزخرفة وجدت في أور (تصوير الدورادو).
وما هذا بشيء إذا قوبل بما اكتشف في الجهة الجنوبية من المقبرة العراقية العظمى؛ أي في بلاد السومريين. هنالك البعثة الكبرى، وهناك الكنوز الأثرية. العفو. ينبغي أن أقول كانت هنالك، وهي اليوم في المتحف البريطاني في لندن، وفي متحف جامعة بنسلفانيا بفيلادلفيا في الولايات المتحدة. أما ما تراه - أيها القارئ العزيز - في المتحف العراقي، فهو جزء صغير، صغير منها.
وما أعجب ما تراه حتى في قسمة بلادك الضئزى، إن كان من الحلي والجواهر، أو من الأواني الخزفية والتماثيل، أو من الأختام والتحف والمواعين! فهناك مكحلة سيدتي السومرية ودبابيس شعرها. وهاك إكليل الملكة شباد، وأوراقه الشبيهة بورقة الورد مصنوعة من الذهب، وهاك قلادتها، وفيها مائة حجر كبير وصغير من الياقوت واللازورد. وقد وجد في قبر هذه الملكة السومرية، مع حلاها وجواهرها ، قارب من الفضة، هو ذكرى نزهاتها - ولا ريب - في نهر دجلة.
وماذا كان مدفونا مع صاحب الجلالة العظمى ملك الأرض وبطلها الأكبر، هوس كلام دوغ؟ فإن الخوذة التي كان يلبسها للحرب لمن الذهب الإبريز، وكذلك سنان الرماح والفئوس سلاحه. وهاك خنجرا من الذهب نصابه من اللازورد، وقرابه من الذهب المسلسل الدقيق الصنع. وهاكم، يا غواة الموسيقى، قيثارة الملك المرصع صندوقها بالذهب وحجارة اللازورد والياقوت. وإن أنفس وأثمن ما اكتشف في مقابر الملوك بأور الكلدانيين كبش من الذهب الخالص، صوفه من المعدن والحجارة الكريمة، وهو واقف عند جذع شجرة، ذات أغصان مثمرة صيغت كلها من الذهب. الذهب! لقد كان في ذلك الزمان، على ما يظهر، أبخس من الحديد، فصنعوا منه حتى الخناجر وسنان الرماح!
أما الحلي المتنوعة - صيغة وشكلا - فإن في المتحف العراقي جزءا صغيرا منها؛ لتمتع به سيدتي البغدادية نظرها. ولتعلم سيدتي أن أختها السومرية، التي كانت تسرح شعرها، أو تجلس للماشطة، في هذه الشمس (شمسنا) وعلى ضفة هذا الفرات (فراتنا)، منذ خمسة آلاف سنة، كانت تنام على سرير، وتجلس على كرسي، وتمد خوانها على مائدة، وتفرش بيتها بالطنافس.
وذلك الذي بنى بيتها، ذلك المعماري السومري، هو الذي اخترع القنطرة والعقد في البناء. وهو أول من استوحى شجرة النخل، فأوحت بالعمود إليه، فظهر العمود لأول مرة في قصور أور وهياكلها.
ومما هو جدير بالذكر، أن شرائع السومريين وصناعاتهم كانت مصابيح علم وهدى لمن جاءوا بعدهم. فعندما اكتشف الأثريون نينوى، منذ نحو خمسين سنة، قالوا إن شرائع موسى مأخوذة من شرائع حمورابي. واليوم يقول لنا الأستاذ لنرد وولي مدير بعثة أور إن شرائع حمورابي مستمدة من شرائع سومر، ولم يكن في موضع مدينة نينوى أثر للبناء يوم كان السومريون قد وصلوا (3100ق.م) إلى درجة عالية من العمران.
ولك أن تسأل: إلى أي عمق حفر الأثريون ليدركوا هذا العلم كله؟ عندما وصلوا إلى مدافن دولة أور الثالثة؛ أي الأخيرة، استمروا في الحفر فاخترقوا خمس طبقات من الأرض، كل طبقة منها تمثل دورا من أدوار التمدن، بما اكتشف فيها من الآثار التي تختلف عما اكتشف في الطبقة دونها. وقد حفروا حتى تحت الطبقة الخامسة فوصلوا إلى التراب البكر؛ أي الطين الراسب على ضفتي النهر.
صفحة غير معروفة