رئيس الشهداء كنج عثمان
وقد أصبح هذا الضريح مقاما تشعل الشموع عليه كل ليلة جمعة، ويزوره الناس وينذرون له النذور.
أما إكليل المعجزات في تلك الملحمة العظمى فقد أحرزه الطوب أبو خزامة الذي أضحى بعد ذلك، في نظر العامة، وليا من الأولياء. فهم يزورونه، ويتبركون به، ويعقدون الخرق بسلسلة الحديد التي تطوق قاعدته، وينذرون له النذور، ويسرجون الشموع حوله كل ليلة جمعة. أكرم به من ولي! قلما يخيب طلب زواره، وأكثرهم من النساء. فالمرأة العاقر والفتاة العاشقة، والعمشاء والعرجاء، وأم البنين المعلولين - كلهن يجئنه طالبات داعيات. الأم التي لا يعيش لها ولد تأتي إليه بالمولود في يومه السابع، وتدخله في فوهته وتخرجه ثلاثا لصحة المولود - على ما أظن - وشجاعته وطول عمره. والمرأة التي بعينها رمد تدخل رأسها في فوهته وتخرجه ثلاثا وتغسل شيئا منه أو من السلاسل حوله بالماء، ثم تغسل بذاك الماء عينها، وتنذر النذور. ومما هو جدير بالذكر أن الناذرات لا يفين بنذورهن إلا إذا استجيبت طلباتهن.
وعلى الطوب أبو خزامة زبور ورموز لا يحسن تفسيرها غير المتضلعين بالعلم من الرواة.
قال الراوي الذي تلطف وكان دليلنا: ترى هذه البعجة في ظهره؟ قد توقف عن السير في يوم الحرب، فغضب عليه السلطان، فضربه ضربة بكفه بعجت ظهره. لماذا سمي أبو خزامة؟ الجواب عندي. انظر إلى الفوهة تر في داخلها صدعا، هو مكان أنفه الذي كانت فيه الخزامة - أبو خزامة! ولما استعصى على السير نتله السلطان من خزامته فخرم أنفه. وهذا أثر الخرم باق إلى اليوم. أما السمكات الأربع المنقوشة على ظهره فإن قصتها عجيبة. هي ترمز إلى ما كان من غضبه - غضب أبو خزامة - وسمو قصده، فعندما خرم السلطان أنفه، توقف عن الحرب - أبى القتال - صار من أنصار أهل السلام. ولشدة غضبه وتحقيق قصده في رفض الحرب وشجبها ألقى بنفسه في دجلة. فخاض السلطان النهر لينقذه، فجره إلى البر، فرأى صورة السمكات منقوشة على ظهره لتشهد أنه رمى بنفسه في النهر فرارا من السلطان ومن الحرب.
كل هذا من فضل الدليل وعلمه، إلا أنه نسي أن يشير إلى الكتابة المزبورة على المدفع، وهي أنه «صنع برسم السلطان مراد خان» وكأن به - أي الدليل - يقول: فقهت ما تلمح إليه. وإني أرد كيد المشككين بنحرهم. فهل ترى في الكتابة المزبورة، كما تقول، غير ما قرأت؛ أي «صنع برسم السلطان مراد خان»؟ كلا. إذن، ما صنع بالأستانة بل صنع ها هنا ببغداد بأمر مولانا عبد القادر، قدس الله سره، وبعونه تعالى.
ويبلغ طول هذا المدفع أربعة أمتار ونصف متر وقطر فوهته نحو نصف متر وهو الآن «مضطجع على مرقد» من جذوع النخل في محلة الميدان في الصوب الشرقي من بغداد أمام باب القلعة التي فيها اليوم وزارة الدفاع.
في مقبرة الكرخ
يستدل مما ذكرت على أنه يحق للولي أن يوكل من يقوم مقامه في المعجزات، وإن كان الموكل من الجماد، كالمدفع، أو الراية التي مشت وحدها، أو السيفين بيد الجندي المقطوع الرأس. وما عبد القادر بفريد في هذا بين الأولياء. فهناك غيره كثيرون. وإن صغرت القباب المضطجعون تحتها، ينيبون عنهم الجماد، لخير العباد، ولكنهم ما حاولوا، في حياتهم الدنيا، أن يلبسوا نبوغهم الصوفي ثوب السياسة، أو يقلدوه سيف الملك. ظلوا بعيدين عن الملك وعن الحرب، إلا القليل منهم، من غرتهم المناصب فقاسوا في سبيلها البلاء كثيره أو قليله.
في مقبرة الكرخ القديمة بعض المقامات الجديرة بالذكر والزيارة، وهي لا تخرج من موضع بحثنا في ما تبقى من آثار مدينة الخلفاء. تعال إذن نزر مقبرة الكرخ، وجدير بنا، ونحن في الطريق، أن نتمثل بقول أبي زيد البسطامي الطبرستاني: «اترك نفسك وتعال، كنت لي مرآة، فصرت أنا المرآة.»
صفحة غير معروفة