ما بقي إذن من الأخطار غير اثنين! الواحد من الطبيعة، والثاني من الإنسان. أما الأول فهو جنون البادية، ذلك الجنون الذي يخشاه حتى أبناؤها. هو هول الشول بعينه. هو جنون الرياح العاصفة. هو «إعصار فيه نار» وفيه ما هو أشد بلاء، إعصار يحمل من الرمل والتراب ركاما، فيضيق على المسافرين الرحبات، ويسد مواطن النظر كلها. إعصار يعمي الأبصار. وما هذا كل شره. فهو إذا لقي قافلة في طريقه، وكان سائق إحدى السيارات ضعيف النظر أو العصب أو القلب، وغير ماهر في مهنته، فتهتز يداه القابضتان على الدولاب، فتدور السيارة بجنبها للمهب، بدلا من أن تظل سائرة وإياه في خط مستقيم، مدبرة أو مقبلة - إذا كان الأمر - كذلك ينفخ الإعصار في جوف تلك السيارة، وتحت أنفها، فيرفع بها عن الأرض، ويقذفها قذفة فيها الدمار والموت.
أخبرني من شاهد مرة إحدى السيارات في مثل هذه المحنة. فكان الإعصار يعصف فيها عندما جنبت، فرفعها فوق الأرض، وقذف بها بضعة أمتار من الطريق، فحطمها وقضى على كل من فيها.
أما الخطر الثاني: فهو من طمع الإنسان المتاجر بالأسفار، ومن جهل المسافرين، أو من رغبتهم في توفير دريهمات من المال. فإنك لتعجب وتحزن إذا رأيت سيارة من سيارات الشركات الوطنية، حاملة ستة من الركاب، راكمة حقائبهم وصناديقهم، ليس إلى الوراء وحول الخزان فقط، بل إلى الجنبين، على طول الدرجتين حتى مستوى سقفها، فتسد كل الأبواب، إلا واحدا لا غير. فماذا يفعل الركاب إذا ما فاجأهم الخطر؟ إذا انقلبت السيارة، أو اشتعلت بها النار من عود ثقاب مشتعل يرمى إهمالا بين الحقائب، فكيف يخرج الركاب والسائق، كيف يخرجون مسرعين لينجوا كلهم بأنفسهم؟!
طريق الصحراء (تصوير الدورادو).
كانت في موكب ذاك اليوم خمس سيارات مشحونة، مزدحمة، مسدودة الأبواب كما وصفت، وسيارتان كبيرتان تحمل الواحدة عشرين راكبا، كراسيها معدودة، فلا سبيل للازدحام فيها، وسطحها معد لأمتعة الركاب، ثم ثلاث سيارات شحن، منها واحدة تحمل البريد. والموكب يسير غالبا في وقت واحد.
هذا النظام في السير هو من حسنات السفر بين سوريا والعراق. فهو يذهب بهول البادية، إلا في عواصفها، ويزيل وحشة الطريق وأخطارها. ولم يبق من حاجة إلى دليل. لقد أضحت الطريق معروفة من آثار الدواليب فيها، وكثيرا ما تسير السيارتان والثلاث في صف واحد، مقابلة بعضها البعض، ويطلق للسبق البنزين.
وهناك غير هذا الجديد المفيد. هناك الأنصاب إلى جانب الطريق، وما هي بعيدة بعضها عن بعض، تنبئ المسافات، كيلومترا في الناحية السورية، وميلا في الناحية العراقية، وتزيد بالاطمئنان. إنما هي الدليل الصادق اليوم. أو هي وأثر الدواليب تهدي السائقين فلا يتيهون، ولا يضلون السبيل. •••
لقد مدنت البادية، وأهم ما تغير وأنشئ فيها، إنما هو في الرطبة. هناك، شرقي وادي حوران، في قلب الشول، في منتصف الطريق، بين دمشق وبغداد، آبار الماء، التي لم يكن يعرفها منذ عشر سنوات غير البدو، بل الإدلاء من البدو.
تلك الآبار يكنها العراء، ويحيط بها الهول العاري، فلا شجرة ولا صخرة ولا شعيب ينبئ بها، أو يدل عليها. تلك الآبار هي إرث البدو، أيا كانوا، ومن أي قفر جاءوا، يسوقون أغنامهم وقوافلهم إليها. وكل من وردها كان يحمل دلوه وحبله. وإلا فلا سبيل إلى الماء، ولا حيلة.
فلو وردها جماعة من البدو، ولا حبل معهم ولا دلو، وكان على الماء من معهم الاثنان، وكانوا معادين مانعين، فلا بد من قتالهم وغلبتهم؛ ليصيروا من أبناء الرحمة والمعروف. وكم من معركة شبت نارها حول هذه الآبار بين أبناء البادية المتغازين الذين هم «قوم» بعضهم لبعض؟ كذلك كانت الرطبة، رحمة من الله مدفونة في الشول، تحف بها الأخطار، ويحميها الموت.
صفحة غير معروفة