فقالت: «أتدعوه عشيقي؟! نعم، يحبني، ولكنه يحبني حب البشر للآلهة ولا يطمع بأكثر. أفيحكم عليه بالموت من أجل ذلك؟! أهكذا يحكم على الأبطال الأمناء؟!» فالتفتت إليها الملكة وتوسلت إليها أن تسكت. فقالت جوليا: «لا أقدر لا أقدر؛ فإن العذراء الطاهرة لا تخاف الأسد الكاسر. لينفذ أمره في هذا الفارس، فجوليا التي يموت ذلك الفارس من أجلها تعرف كيف تبكيه وترثيه. نعم إن اقتراني به لم يكن ممكنا ونحن في قيد الحياة؛ لما بيننا من البعد في المراتب، ولكن الموت يساوي بين الرفيع والوضيع، فاحسبوني من الآن في عداد الأموات.»
وقبل أن تتم كلامها وقبل أن يجيبها الملك بكلمة دخل راهب من الرهبان الكرمليين وانطرح على ركبتيه أمام الملك وهو يطلب منه أن يوقف الحكم. فأقسم الملك بالسيف والصولجان وقال: «قد تآمر الإنس والجان على تسفيه رأيي! فعلام بقي هذا الفارس حيا إلى الآن؟ قل لي ماذا تريد أيها الراهب؟» فقال: «قد باح لي هذا الفارس بسر خفي لا يمكنني أن أبوح به لأنني سمعته منه بالاعتراف، ولكن أقسم لك بأعظم الأقسام إنني لو كاشفتك بهذا السر لاضطررت أن تحجب دمه.»
فقال الملك: «أيها الأب المحترم، أنا أحترم الكنيسة مثلك كما تشهد هذه الأسلحة، فأطلعني على هذا السر وأنا أتبصر في الأمر، وإلا فلا يمكن أن أصرف عن عزمي.» فطرح الراهب الرداء عنه، فظهر من تحته رجل أنهكه الصوم والتقشف، وقال: «قد مضى علي عشرون سنة يا مولاي وأنا أعذب جسدي وأقمعه في مغاير عين جدي من أجل ذنب واحد، فهل أكذب عليك وأهلك نفسي أو أفشي سر الاعتراف وإفشاؤه من الكبائر؟!»
فقال الملك: «أأنت ناسك عين جدي؟ أأنت الرجل الذي بعث إليه مجمع الأمراء بهذا الفارس عن غير علم مني لتخابر صلاح الدين في أمر الصلح؟ ليكن معلوما عندك وعندهم أنني لا أتقيد بقيد الكرمليين، وإن شفاعتك بهذا الفارس تجبرني على التعجيل في سفك دمه.»
فقال الناسك: «احذر أيها الملك فإنك ستضرم نارا تود لو قطعت يدك ولم تضرمها. احذر أيها الرجل العنيد.»
فصرخ الملك قائلا: «أتشرق الشمس ولا يقتل من أهين بسببه شرف إنكلترا؟! ليخرج كل أحد من هنا وإلا فوحق ...» ولم يتم كلامه حتى سمع واحدا يقول: «قال كتابكم لا تحلفوا البتة.» وإذا بالحكيم قد دخل الخيمة وسلم وجلس أمام الملك، فقال له الملك: «أظنك جئت لترى بما نكافئك.»
فقال الحكيم: «قد جئت لأكلمك في أمر ذي بال.» فقال الملك: «هذه هي الملكة فانظر إليها لترى من شفى زوجها.» فقال الحكيم: «لا يليق بنا معاشر المشارقة أن ننظر إلى الحصينات.» فقال الملك: «لتنصرف الملكة إذن، ولتنصرف ابنة عمنا أيضا، وأنا قد أمرت أن يؤخر الحكم إلى الظهر.» فخرجت الملكة والأميرة والجواري كأنهن مسوقات سوقا وأتين إلى خيمة الملكة، وكانت أشدهن جزعا وأكثرهن بكاء، وأما الأميرة جوليا فلم تسكب دمعة ولم تفه بكلمة. فقالت إحدى الجواري للأخرى: «قد ظلمناها بقولنا إنها تحبه، فليس في الأمر أكثر من أنها اغتاظت لأن هذه المصيبة أصابته بسببها.» فقالت لها الأخرى: «اسكتي فإنها من آل بلنتجنت الأنوفين الذين يتجرعون الموت ولا يشكون ضيما، ولكن الويل لنا فإننا قد أضرمنا هذه النار بقلة عقلنا.»
الفصل الثامن عشر
أين الرواية بل أين النجوم وما
صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
صفحة غير معروفة