وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تكدوا هذه القلوب (لا تشتدوا عليها) ولا تهملوها، وخير الكلام ما كان عقيب جمام. ومن اكره بصره عشي (ضعف) وعاودوا الفكرة عند نبوت القلوب، واشحذوها بالمذاكرة، ولا تيأسوا من إصابة الحكمة إذا امتحنتم ببعض الاستغلاق، فإن من أدمن قرع الباب ولج.
وليس المزاح البريء والأحاديث المستطرفة مما يتنافى مع كمال الأدب وحسن الخلق، وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم - وهو المثل الأعلى للكمال الإنساني - يمازح أصجابه، ويداعب نساءه، وكان يمزح ولا يقول إلا حقا، وكان يبتسم لدعابات بعض صحابته معه مثل ((نعيمان))، وكان ذلك دليلا على ما يتمتع به عليه الصلاة والسلام من حلاوة النفس، ودماثة الخلق، ورقة الشمائل، ولطف المعاشرة، وكذلك درج على سيرته الصحابة والتابعون وعلماء الإسلام وأئمته المقتدون
إن التحرج من المزاح أو الدعابة المحتشمة كما يفعل بعض المتظاهرين بالوقار، مرض نفسي ينشأ من جفاف الروح وانحراف المزاج واعتلال الصحة، وأعظم الناس تزمتا في المجالس العامة لا يستغني عن المرح والدعابة ورواية الملح والطرائف والحكايات المضحكة في مجالسه الخاصة، وإني لأكره هؤلاء الذين يرون في التزمت وعبوس الوجه دليل الجد وعنوان الوقار والكرامة، ولو كان هذا صحيحا لكان أجدر الناس به رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما أني لا أحب الذين يفرطون في طلب النوادر المضحكة وحكايتها وقتل أوقاتهم في المزاح والدعابة، والخير وسط بين الأمرين. وقد قال مطرف بن عبدالله لولده: يا بني إن الحسنة بين السيئتين - يريد بين المجاوزة والتقصير - وخير الأمور أوساطها، وشر السير الحقحقة (شدة السير).
وقد اقتصرت فيما اخترته من الفوائد، على تراثنا العربي دون الغربي، لا لشيء من كره التراث الأجنبي أو عدم الاعتداد به، بل لأن الأدب الغربي قد كثر مترجموه وناقلوه وناشروه والمقتبسون منه في أوساطنا الثقافية، حتى اعتبر عند كثير من الناس هو الأدب الإنساني وحده دون أدبنا العربي. ولست هنا في سبيل مناقشة هذا الرأي، ولكني أحببت أن أعرض صفحة من تراثنا العربي، منوعة المادة، غزيرة الفائدة، ليتعلم الذين يجهلون هذا الثرات من مصادره الأولى أية خسارة فكرة ونفسية تلحق بهم من جهلهم به وإعراضهم عنه، ونحن نخوض اليوم معارك عديدة في سبيل الاحتفاظ بسيادتنا وشخصيتنا ومقومات حياتنا، والمعركة الثقافية أشد هذه المعارك خطورة وأبعدها آثارا، وإذا كانت الأمم الحية لا تعيش في بيت مقفل يسد عليها منافذ الهواء والنور، بل تأخذ من كل الثقافات، وتطلع على نتائج العقل الإنساني أنى كان وكيفما كان، فإنها أشد حرصا على معرفة تراثها الإنساني والتزود منه، وبخاصة إذا كان هذا التراث عنوانا لحضارة إنسانية من أسمى الحضارات الإنسانية في التاريخ، فإذا رأيت أمة تريد الحياة والبقاء والإسهام في ركب الإنسانية السائر، ثم هي تزدري أدبها الرائع، وتحتقر تراثها الفني، وتهمل نتاجها الفكري الخصيب، فاعلم أنها أمة هازلة جاهلة بأقوى عوامل بقائها ومقومات وجودها، وهي كالتاجر الذي يريد أن يزاحم كبار التجار وليس له مال يتجر به.
وقد كنت أود أن أذكر تراجم موجزة للأعلام الذين تضمنهم هذا الكتاب، ولكني وجدت ذلك يكلفني أمرا عسيرا لا تتحمله حالتي الصحية، ولعلي أفعل ذلك في الأجزاء التالية إن شاء الله.
وأخيرا فإني حرصت على طبع الكتاب بحجم يسهل معه حمله في جيب القارئ أو حقيبة كتبه، ليكون سميره في الأسفار والمتنزهات ومجالس السمر، فيجمع بين متعة الجسم ومتعة الفكر.
وإنس لأسأل الله أن يؤدي هذا الكتاب أغراضه ويتقبله لوجهه الكريم.
دمشق: 1 ربيع الأول/1382 = 1 آب/1962.
صفحة ١٠