وكلها تشير إلى تنوع وازدهار كبيرين أديا إلى وصف كثير من الرحالة الفسطاط بأنها مدينة كبيرة موسرة. فالبيوت أصبحت مبنية بالطوب الأحمر، وأرضياتها من بلاطات الحجر الجيري وأنابيب فخارية لجري الماء داخل البيوت من خزانات تملأ بواسطة السقايين،
18
وكانت مجاري مياه الصرف مبلطة أو منقورة في الصخر، ولكثرة السكان تطور المعمار من بيت الدور الواحد إلى بيوت متعددة الطوابق يسكنها عدد كبير من الناس ربما من ذوي القربى أو ممن يستأجرون المساكن في العمائر. ولعل هذا يقربنا من نمط شاع في القاهرة بعد ذلك باسم «الربع» - بفتح الراء وجمعها: أرباع - حيث يستأجر الناس قدر حاجتهم من غرف أو شقق في بناء كبير المساحة متعدد الطوابق، وربما نقلنا وصفا للفسطاط من بعض المصادر العربية لمزيد من الإيضاح لأهمية المدينة.
كتب ابن حوقل في صورة الأرض (القرن العاشر): «... [مصر] مدينتها العظمى تسمى : الفسطاط، وهي على شمال النيل، وهي مدينة حسنة ينقسم لديها النيل قسمين، فيعدي من الفسطاط إلى عدوة أولى ... تعرف بالجزيرة، ويعبر إليها بجسر فيه نحو ثلاثين سفينة، ويعبر من هذه الجزيرة على جسر آخر إلى القسم الثاني ... تعرف بالجيزة. والفسطاط مدينة كبيرة نحو ثلث بغداد، ومقدارها نحو فرسخ على غاية العمارة والخصب والطيبة واللذة، ذات رحاب في محالها وأسواق عظام ومتاجر فخام، وممالك جسام إلى ظاهر أنيق وهواء رقيق وبساتين نضرة ومتنزهات على مر الأيام خضرة ... والدار تكون بها طبقات سبعا وستا وخمس طبقات، وربما سكن في الدار المائتان من الناس.»
19
ووصف ناصري خسرو القاهرة والفسطاط - بعد ثلاثة أرباع قرن من إنشاء القاهرة الفاطمية - فقال: «الفسطاط تظهر من بعد كالجبل، وفيها منازل من سبع طبقات فأكثر، وسبعة جوامع كبار، ولو وصفت ما فيها من آثار السعادة والثروة لكذبني الفرس ... وأخبرت أن في القاهرة كما في مصر - يقصد: الفسطاط - عشرين ألف منزل ملك السلطان، وجميعها مؤجرة، والأجرة تقبض شهريا، والتأجير والإخلاء من غير جبر ولا إكراه.»
20
والخلاصة أن ما ذهب إليه ناصري خسرو من أعداد كبيرة لبعض مظاهر خدمات المدينة في كل من الفسطاط والقاهرة، كوجود 52 ألف جمل عاملة في نقل قرب الماء للأهالي، وخمسين ألف حمار للإيجار لمن يريد الانتقال من مكان إلى آخر،
21
إنما يدل على حجم سكاني ونشاط اقتصادي كبيرين، وذلك علما - مرة أخرى للتأكيد - أن ناصري مكث في القاهرة سنتين (1047-1048م) أي إنه عايش المدينة معايشة تامة، ولم يكن رحالا تستحثه سرعة الحركة والانتقال. كما يجب ذكر أن فترة وجوده عاصرت المراحل الأولى من نمو مدينة القاهرة الفاطمية؛ إذ كان عمرها ثلاثة أرباع قرن، بينما كان عمر الفسطاط قد أربى على ثلاثة قرون، والغرض من هذه المداخلة أن الفسطاط كانت في زمن ناصري خسرو مدينة مكتملة النمو والسكان والنشاط الاقتصادي مقابل القاهرة حديثة النشأة تسودها الوظيفة السياسية، ذات مبان وقصور وبساتين واسعة، يسكنها مجموعة محددة من السكان غالبهم يعملون في الإدارة والجيش، وكل هذا يشير إلى أن الأرقام التي أوردها ناصري خسرو كانت تنصب على الفسطاط بنسبة أكبر من تلك الخاصة بالقاهرة.
صفحة غير معروفة