346

القاهرة: نسيج الناس في المكان والزمان ومشكلاتها في الحاضر والمستقبل

تصانيف

لكن القاهرة نمت شرق العباسية وعبر طريق صلاح سالم إلى مدينة نصر، وما تزال تنمو عبر طريق النصر في اتجاه الطريق الدائري؛ لتخنقه في اتجاه ما يسمى الآن باسم القاهرة الجديدة : التجمعات الثالث والخامس والقطامية ... إلخ. الحصيلة النهائية لهذا النمو السرطاني غير الواعي بمشكلات القاهرة - برغم أنه مخطط من قبل وزارة التعمير - أن العباسية لم تعد في شرق القاهرة، بل في وسط القاهرة. تماما كان حي لاظ أوغلي في وسط قاهرة أوائل القرن العشرين، وبذلك استحقت العباسية أن تسمى الآن لاظ أوغلي الجديد مع فارق الزمن وكثرة الناس والسيارات. في العباسية الآن وزارة الكهرباء ومصالحها العديدة، مثل: مصلحة كهرباء الريف، والكثير من الأبنية التابعة لوزارة العدل، مثل: مجمع محاكم شمال القاهرة، وأبنية لوزارة الداخلية عديدة، مثل: معهد الشرطة ... وغير ذلك، وكلها مجمعات ضخمة مكونة من أبراج عديدة تصل إلى نحو عشرة أدوار ارتفاعا، تحتجز وراءها مدرسة سانت فاتيما وتحاصرها. ومقابل هذه الأبنية العملاقة مبنى كلية الشرطة التي يقال: إن النية متجهة إلى نقل وزارة الداخلية إليه بعد أن تنتقل الكلية إلى مبنى ضخم عبر الطريق الدائري، وأبراج مصر للسياحة ... إلخ. هناك كوبري علوي قصير يمر في هذا الشارع المختنق بالحركة التي تنصب من وإلى مدينة نصر والأوتوستراد في اتجاه وسط البلد عبر شارع رمسيس وشارع العباسية والجيش وشارع الخليفة المأمون، وكوبري 6 أكتوبر العلوي يمر وراء المحاكم ووزارة الكهرباء، ووراءه جامعة عين شمس التي اختنقت بمرور الكباري والجسور وخطوط المترو ومترو الأنفاق، ويخترق الحرم الجامعي طريق الخليفة المأمون المكتظ بالحركة، وبذلك أصبحت جامعة عين شمس حبيسة موقع محاصر مخترق. الخلاصة أن المنطقة ككل هي من بين المناطق الأصعب في الحركة بالقاهرة، وما أكثرها!

بعد هذا الوصف العام الذي يعرفه كل قاهري يفكر في العبور من الشرق إلى الغرب أو العكس، ويعمل له ألف حساب كأنه مقبل على اجتياز حقل ألغام يسير فيه بسرعة هي غالبا أقل من سرعة المشاة، نأتي إلى تحليل دور المخطط الحكومي في صنع هذه العقبة الكئود.

لقد بنيت هذه الأبراج الحكومية على نفس النمط الذي تأسست عليه مباني لاظ أوغلي القديمة، كأن الزمن لا يتحرك! فلم يعد للمشاة دور في الحركة كما كان الأمر في مطلع القر؛ بل تعتمد الحركة الآن على السيارات من كل صنف. أين تقف هذه السيارات الخاصة بالموظفين والعملاء من الشعب؟ لم يبن المخطط جراحات تحت وحول المبني، وعلى الموظفين والأفراد الساعين لقضاء مصالحهم أن يتقاتلوا من أجل مكان يضعون فيه سياراتهم، وهو أمر بعيد المنال! أي قوة من رجال شرطة المرور غير قادرة على تنظيم الحركة، وأصبح الأمر كله متروكا لمن نسميهم «المنادين» ينظمون انتظار السيارات تحت الكوبري وعلى جانبي الطريق صفوفا متعددة حتى ضاق بهم نهر الطريق، وأسهم بذلك في المزيد من بطء حركة السير.

إذا كانت القوانين تنص على تخصيص جراجات تحت العمارات، فإن الأبنية الحكومية هي أول من يخالف القانون، ولهذا فلا عتب على ملاك العمارات أو المباني التي تحف بها حديقة صغيرة أن يحولوا الجراجات والمساحات الشجرية إلى محلات وبوتيكات، تاركين مهمة ركن السيارات إلى جوانب الشوارع وأرصفتها، وهذا ما يعطي القاهرة ظاهرة فريدة، لكنها معيبة، بين المدن الكبيرة في العالم.

فما بالنا لو انتقلت وزارة الداخلية إلى مبني كلية الشرطة الحالي؟ صحيح أن هناك مكانا واسعا الآن أمام الكلية، لكن البعض من المخططين والمهندسين ينصحون دائما باستخدام كل الفراغات لبناء ملحق جديد وملحق بالملحق ... إلخ. انظر إلى مبني وزارة الداخلية الحالي. لم أدخله منذ أكثر من ربع قرن، لكن يستبين للناظر من الخارج أن كل فراغ قد بنيت فيه ملاحق حتى أصبح غابة من الأبنية ضاعت إلى الأبد متنفساتها الطبيعية من الهواء والنسيم صيفا وأشعة الشمس الدافئة شتاء، وحل محل الطبيعة النظيفة ما تنفثه أجهزة التكييف من غازات ضارة وما تصدره من ضجيج يلوث السمع. فما بالنا بالعاملين داخل هذه المباني المهمة: هل هم يعملون في وزارة أم ماذا؟! وما بالنا حين تنتقل وزارة المالية ومصلحة الجمارك إلى أبراجها العديدة في امتداد شارع رمسيس شرق العباسية؟ ماذا سيكون حجم الحركة في هذه المنطقة بين عشرات الآلاف من طلبة جامعة عين شمس، ومؤسسات الجيش، وموظفي الوزارات والعملاء المترددين عليها؛ لقضاء حاجاتهم من هذه الوزارات المركزية المحتوى والمضمون؟

قبل أن نقول: إن الأمر يحتاج إلى تخطيط جديد للمرور، علينا أن نطالب الوزارات والمصالح الحكومية أن تخصص أماكن لانتظار السيارات؛ فليس بمستساغ أن تبني الأجهزة الحكومية ما شاءت، ثم تلقي بالكرة في ملعب إدارات المرور التي ليس لديها حلول سحرية لعلاج ما أفسده الآخرون!

إذا أردنا تعداد المناطق العقدية في حركة المرور - أو ما يسمى اختناقات عنق الزجاجة - في القاهرة فهي كثيرة، وأسبابها متعددة أيضا، لكن ليس أحدها بسبب سوء التخطيط الحكومي مثل لاظ أوغلي الجديدة والقديمة على حد سواء. الوزراء لا يشعرون بالمعاناة؛ لأنهم ينتقلون في طرق فتحتها لهم سيارات وموتوسيكلات المرور من أجل العبور السريع، وغالبا ما يضيف مرور مسئول أو ضيف كبير إلى مشكلة بطء المرور؛ لأن الطرق تقفل قبيل مرور سياراتهم بعدة دقائق هي في الواقع كافية لتراكم انتظار أرتال من السيارات. (4-3) هل يمكن إنقاذ أوتوستراد الإسماعيلية؟

9

تتسم القاهرة بمداخل ومخارج تتزاحم عليها الورش والمصانع والمخازن وأنواع رديئة من السكن المصاحب؛ ويترتب على ذلك أن الطرق الممتازة التي تربط القاهرة بأجزاء مصر تنتهي فجأة إلى متاهة من اختناقات المرور! فهنا تتزاحم شتى أشكال ووسائل النقل من عربات الحيوان إلى السيارات الخاصة إلى الشاحنات بأحجام ومقطورات مختلفة إلى الأتوبيسات والميكروباصات.

وسواء كان الطريق أوتوسترادا أو طرقا من درجات أقل؛ فإن للطرق في العالم جاذبية فتافيت السكر للنمل، أو جاذبية قضيب المغناطيس لكل أشكال المباني؛ ما كان منها للسكن أو أية مشروعات تجارية أو صناعية أو خدمية أو إدارية أو أمنية، وكل ما يتفتق عنه الفكر البشري من أبنية ذات وظائف تلبي احتياجات الإنسان التي لا تنضب.

صفحة غير معروفة