وساد صمت ثقيل، ولاحت في عينيها نظرة غائبة، وجعلت تستحضر من الماضي ما أودعته من ذكريات، ذكرت آمالها وكيف خابت واحدا بعد آخر، فاعتلج بصدرها الألم والحسرة حتى اغرورقت عيناها، وأغرق محجوب في أفكاره مرة أخرى، ولكنه لم يستشعر الندم ولا أقر بالخطأ، كلا، ولا عدل عن رأي، وراح يتساءل: هل يتكشف الغد عن حياة جديدة أو لم يبق له إلا الموت؟! بيد أنه غلب على أمره هذه المرة، فاستسلم لليأس والقنوط، وغشيت عينيه سحابة مظلمة، وحاول جهده أن يهيب بروحه المتمردة، وغمغم بصوت لا يكاد يسمع هامسا: «طظ.» ولكنها نمت - على خلاف عادتها - عما يكنه فؤاده من اليأس والاستسلام.
46
اجتمع الرفاق الثلاثة - علي طه وأحمد بدير ومأمون رضوان - بإدارة مجلة النور الجديد التي يصدرها علي طه، وكان مأمون رضوان يكثر من اجتماعه بصاحبيه ليتزود منهما قبل سفره الوشيك، ولم يكن للناس من حديث في تلك الأيام إلا حديث الفضيحة الكبرى التي لاكتها الألسن في كل مكان. قيل: إن حرم قاسم بك فهمي همت بنشر بيان في الصحف عن الأسباب التي أدت إلى طلاقها من زوجها. وقيل: إن بعض الجهات تدخلت في الأمر وأقنعتها بالعدول عما كانت أجمعت عليه، وانتهت المسألة باستقالة الوزير، وسحب مذكرة ترقية مدير مكتبه من مجلس الوزراء ونقله إلى أسوان. استبعدت الفضيحة من أعمدة الصحف، ولكنها لم تعد تخفى على أحد، وقد خاض فيها الرفاق بأسف شديد؛ لأنهم لم ينسوا زميلهم القديم، ولا نسوا عهد الزمالة والجيرة بالجامعة ودار الطلبة. وكان علي طه أشدهم ألما، ولكنه لبث ألما دفينا يعتلج مع بواعثه الباطنة، وقد قال أحمد بدير: أتذكرون أحاديث صاحبنا البائس المستهترة؟ أتذكرون طظ المشهورة؟ ... لطالما حسبت ذلك لغوا وسخرية وفكاهة لا شأن لها بالعقيدة والعمل ...
فقال مأمون رضوان بنبرات تنم عن الأسى: إذا تزعزع إيمان الإنسان بالله غدا صيدا سهلا لكل شر.
فابتسم علي طه على حزنه وشجنه، وقال: اسمح لي أن أحتج على هذا الاتهام!
فقال مأمون رضوان مستدركا: أنت لك إيمانك الخاص وإن كنت أراه دون الكفاية ...!
وابتسمت عيناه النجلاوان، وتساءل قبل أن ينبس أحد بكلمة: ترى أنصير في المستقبل عدوين لدودين؟
فقهقه أحمد بدير ضاحكا وقال: لا شك في هذا، ستهاجمك هذه المجلة التي تباركها الآن بتمنياتك، وستتهمك غدا بالرجعية والجمود، وستتهم أنت صاحبها - صديقك - بالزيغ والكفر والإباحية، ومن يعش يره!
وابتسم الأصدقاء الأعداء، ثم قال مأمون رضوان بثقة وإيمان: مأساة اليوم هي مأساة الزيغ!
فهز علي طه رأسه في شك وقال: كم في المؤمنين من أوغاد؛ فليست الحقيقة ما ترى، وصاحبنا البائس وحش وفريسة معا، فلا تنس نصيب المجتمع من جريرته، وهنالك مئات من المؤمنين يشقى الملايين لإسعادهم، فليست جريمتهم دون جريمة صاحبنا التعس؛ فالمجتمع الذي نعيش فيه يغري بالجريمة، بيد أنه يحمي طائفة المجرمين الأقوياء وينهال على الضعفاء. أحب أن أسألكما: هل يكفي أن يستقيل ذلك الوزير؟
صفحة غير معروفة