فهز محجوب رأسه وقال بلهجة لا تخلو من الاحتقار: طالما حدثنا علي طه في دار الطلبة عن مبادئه، والحديث لون من ألوان السمر الجميل، أما أن يهجر الإنسان عمله، ويتخذ من الحديث عن مبادئه عملا قد يؤدي به إلى غيابات السجون، فسلوك أقل ما يقال فيه إنه جنون، وما صاحبنا بمجنون، فكيف فعل هذا؟ ... انظر إلى صاحبنا مأمون رضوان! وكيف حدثنا طويلا عن الإسلام؟ ... ثم انظر إليه وقد جمح للسفر إلى باريس ليتأهل لوظيفة الأستاذية العظيمة ... هذا شاب حكيم ...
فقال بدير بسرعة وبلهجة نمت عن الدهشة: مأمون رضوان شاب مخلص أيضا، وأؤكد لك أنه سيتم تعلمه بتفوق كالعهد به، وأنه سيكون إماما من أئمة المسلمين، هذا أمر لا شك فيه ... - أو فيه شك كبير ...
فهز بدير منكبيه، ولكنه لم يجادل صاحبه؛ لأنهما كانا اقتربا من ميدان الإسماعيلية حيث ينبغي أن يفارقه، واكتفى بأن قال: لقد عقد الأستاذ مأمون بالأمس زواجه، وسيسافر الزوجان إلى الخارج في نهاية هذا الشهر ...
ها هي ذي الخطوط الأولى لهذه الحيوات المتناثرة ترسم في صحيفة الدنيا الواسعة، ولا يدري أحد كيف تصير في الغد القريب أو البعيد، ولا ماذا ينتظر أصحابها من حظوظ ومقادير، وكل ما يدريه أن حياة أي منهم يمكن أن يذيعها راوية كأحمد بدير إلا حياته، فإنها إذا ذاعت على حقيقتها اعتبرت فضيحة! وما يعنيه ذلك في كثير أو قليل، ولكن ينبغي أن يخاف سوء العاقبة، كما ينبغي لعاقل يعيش بين حمقى ومجانين! ولم يستطع أن يستشعر الطمأنينة، ولا أن يستهين بالكآبة التي تولته. ومن عجب أنه وعلي طه نقيضان، ومع ذلك فلا يبعد أن يقذف بهما المجتمع إلى أعماق السجون غير مفرق بين عابده والكافر به! ... وبلغا الميدان، وسمعا باعة الجرائد ينادون عليها منوهين باجتماع حزب الحكومة. وتذكر الأستاذ بدير أمرا فقال وهو يصافح صاحبه مودعا: على فكرة، لقد فقد رئيس الحكومة عطف السراي!
فاضطرب محجوب، وذكر أن قاسم بك فهمي من رجال العهد الحاضر المعروفين، وتساءل: والإنجليز؟
فمط الشاب بوزه وقال: قلب المندوب السامي قلب ...
وافترق الشابان: واتجه محجوب إلى شارع سليمان باشا متجهما مكتئبا، ولكن أنقذه هذا الاضطراب الجديد من الحيرة التي لازمته منذ قبض مرتبه، ولم يعد إزاء الخطر الماثل يتردد في الحكم على والديه، فكانا أولى ضحايا الأزمة السياسية ...
38
ونقل الخبر إلى زوجه، فكان حديثهما على المائدة، وفي الشرفة، وتساءلا معا: هل يبقى قاسم فهمي أو يذهب بذهاب الحكم؟ وكان البك من رجال العهد القائم المعروفين بعداوتهم الحزبية، فلم يكن ثمة أمل في بقائه إذا استقالت الوزارة. وقال محجوب: إذا أحيل البك إلى المعاش نقلت حتما إلى وظيفة مغمورة - إن لم يقذف بي إلى أقاصي الريف - وفقدت آمالي البعيدة إن لم أفقد وظيفتي نفسها ...
أكان كافح ما كافح ليجني هذه النهاية المحزنة؟! أهذه خاتمة الجسارة والمغامرة والاستهانة بكل شيء؟ ... لقد امتلأ غما وكمدا، وجعل ينظر إلى زوجه بعينين مظلمتين لا تريان شيئا، ولم تكن إحسان دونه غما أو كمدا. فكرت مثله فيما يمكن أن يتكشف عنه الغد، وتخايل لعينيها المصير المنتظر. لم يعنها كثيرا فقدان الآمال البعيدة، ولكن كربها تزعزع الطمأنينة الحاضرة. هل تحرم هذه الحياة الناعمة الراغدة؟ ... هل ينضب النبع الذي يروي أسرتها العطشى لتجد نفسها يوما في إحدى مدن الريف ربة لبيت باهت تقف حياتها على خدمته ورعاية صاحبه؟ هذه الخواطر بالأحلام المزعجة أشبه، ولم تدر كيف تواجهها غدا إذا صارت حقائق واقعة! ولكن الظاهر أن الخبر كان سابقا لأوانه، ولم يجدا صدى في الجرائد التي عكفا على قراءتها بعناية. وأكد لهما كثيرون من الأصدقاء أنه لم يئن الأوان بعد. وتتابعت أيام أغسطس في هدوء حتى ألفا الطمأنينة مرة أخرى، بل عاد محجوب يذكر والديه ويتساءل عما ينبغي أن يصنع بهما. وكان هذه المرة ذا عزيمة صادقة، فكتب خطابا لأبيه يعرب له عن أسفه لعجزه عن معاونته، وذكر له أنه لا يني عن البحث عن عمل، ووعده بفرج قريب، وقال لنفسه، يسكن خاطرها: إن الرجل يستطيع أن يصبر شهرا آخر أو شهرين حتى يدركه بالمعونة في ظروف أنسب؟ ... ولكن الطمأنينة لم تدم. وبعث الخبر الذي أعلنه أحمد بدير أول الشهر من جديد، وتطايرت الإشاعات حتى ملأت الجو، وبات الأفق ينذر بشر مستطير، وعاد الزوجان إلى أفكارهما، وساورتهما المخاوف. وقد قابل محجوب مديره سالم الإخشيدي في مكتبه يوما ليسأله عما هنالك؟ ووجده كما عهده دائما هادئا رزينا، ولكنه لم يتأثر بهدوئه ولا برزانته؛ لأنه يعلم حق العلم أنه لا يخرج عنهما حتى في أحرج الأوقات. ورفع إليه الرجل عينيه المستديرتين متسائلا، فسأله الشاب وقد ظل واقفا: ما حقيقة هذه الإشاعات التي تتناقلها الألسن؟
صفحة غير معروفة