فقالت بحدة: السكر يجعل منك وحشا مجنونا، لا تسكر أبدا، اشرب كأسا ... كأسين كما نفعل، شيء محتمل، أما أن تعود بعد انتصاف الليل ثملا تترنح وتسلك مثل ذاك السلوك الشائن فشيء لا يحتمل ...
وانتقلا إلى حجرة السفرة، وتناولا فطورهما، في سكون بادئ الأمر، ثم تبادلا بعض الكلمات، وغادرا الحجرة في حالة طيبة. وذهب إلى الوزارة قبيل الظهر، وكان البك قد سافر إلى الإسكندرية ذلك اليوم يمضي بضعة أيام في بولكلي، فجلس في حجرته يطالع الجرائد. وبعد مضي برهة وجيزة استقبل زائرا لم يتوقع حضوره. فتح الباب، فرفع رأسه عن الجريدة، فرأى مأمون رضوان قادما نحوه، ولاحت الدهشة في وجهه، ثم نهض هاشا باشا، وتصافح الصاحبان بحرارة، وجلس مأمون وهو يقول: مبارك ... مبارك ...
فأدرك محجوب أنه يهنئه على الوظيفة، وسر لذلك أيما سرور، وقال: الله يبارك فيك، حسبتك في طنطا ... - عدت من يومين لشئون خاصة، وقابلت ليلة عودتي الأستاذ أحمد بدير في نادي الجامعة، فأنبأني بتعيينك، وسررت لذلك سرورا عظيما ...
أحمد بدير ... انقبض صدره لذكر هذا الاسم الخطير، وتساءل في نفسه: ترى ماذا يعلم هذا الصحافي المحيط بفضائح المجتمع؟ ... ماذا قال لمأمون رضوان؟ وحدج صاحبه بنظرة عميقة، ولكنه وجده هادئا صافي النظرة كالعهد به، يشف منظره عن باطن نقي طاهر لا تقربه أخبار السوء . واصطنع ابتسامة، وقال متسائلا: وكيف حال الأستاذ؟ ... لم أقابله منذ عهد ليس بالقصير، ولم يأت لتهنئتي.
فابتسم مأمون وقال: غابت عنك أشياء، لقد نشر خبر تعيينك - كما قال لي - في جريدته، وهو يعتبرك مدينا له بالشكر.
وتحدثا عن البعثة، والوظائف الإدارية والفنية، ومهنة التدريس في الجامعة والمدارس الثانوية، وانتقد مأمون النظام الجائر الذي يحرم المتخصصين الاشتغال بفنهم الذي تخصصوا فيه، ولم يرتح محجوب إلى التهوين من شأن الوظائف الإدارية، وقال لصاحبه: إنها تنفرد بمجد ليس لمهنة التعليم منه نصيب. وكان مأمون يفهم المجد على نحو آخر، ولكنهما أدليا بآرائهما في يسر وتسامح، وجر الحديث بعض الشئون الخاصة، فاعترف مأمون أنه جاء إلى القاهرة لأسباب تتعلق بزواجه، وعندئذ أخبره محجوب بأنه تزوج! وهنأه الشاب مرة أخرى، ودعا له بالتوفيق، ثم قال: قابلت صديقنا علي طه أمس ومكثت معه مدة طويلة ...
وخفق قلب محجوب لهذا الانتقال المفاجئ، وساوره القلق. ترى هل أدى الحديث إلى علي طه كيفما اتفق؟ أم علم علي بزواجه وحدث به مأمون؟ لم يكن من الممكن أن يظل زواجه سرا، وكان حتما أن يعلم به علي طه يوما ما، ولكن كيف انتهى إليه؟ وكيف فسره؟ ونظر إلى مأمون، فالتقت عيناهما، وقرأ في العينين السوداوين الصافيتين الارتباك والريب، فلم يعد يخالجه الشك أن عيني مأمون مرآة صافية لا تعرف المكر ولا الخداع، وهما تسألانه بلسان فصيح: «أحقا ما يقال؟ هل خنت صديقك حقا؟» ولم يجد فائدة من حمل صديقه على البدء بالسؤال، فقال متسائلا: وكيف حاله؟
فقال مأمون برزانة: على ما يرام ...
وساد الصمت برهة، وأطرق محجوب. لقد صدق حدسه، ما في ذلك شك. ولكن لأي مدى عرفت الحقيقة؟ إن الذين يعرفون الحقيقة - آل إحسان والبك والإخشيدي - لا يمكن أن يبوحوا بها لمخلوق؛ لأن البوح بها ضار بهم، ولو عرف مأمون الحقيقة لأبى أن يزوره؛ فليس من طبعه أن يتظاهر باحترام شخص يراه أهلا لاحتقاره، وهو ما جاءه إلا ليسمع دفاعه عن تهمة صديقه - تهمة الخيانة فقط، لا تهمة الزواج من فتاة صفاتها كيت وكيت طمعا في وظيفة - هذا هو الحق المبين.
وقد ارتاح لمنطقه؛ فلم يكن يعبأ بحزن علي، ولا هو يعبأ برأي مأمون فيه. ونظر إلى زائره بجسارته المعهودة وسأله: ماذا يسوءه؟
صفحة غير معروفة