أجابته من فورها: نعم، والحمد لله ...
فقال لها الشاب بسرور: الحياة أمامنا منبسطة، والفرص دانية، فلنثب بين الأزهار، ولنجن الثمار ...
فقالت مبتسمة عن درها النضيد: نثب ... ونجني. - لا تصدقي الحكم الجامدة التي يعرفون بها السعادة. السعادة ليست في الحياة، وجميع ظروف الحياة لديها سواء، هي حقا في الإرادة؛ فمن يردها إرادة تأته طوعا أو كرها ...
فحدجته بنظرة متفكرة بعينيها السوداوين البديعتين، فقال بحذر وتواضع: إذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون ...!
فقالت بهدوء: لا داعي لهذا ... (وهنا ذكرت شطر بيت للمتنبي فقالت) ... كل مكان ينبت العز طيب ...
فأخذ يدها في يده كأنه يعاهدها، تريث قليلا، ثم قال وقد غير لهجته: وثمة شيء آخر، لا ينبغي أن نعيش في عزلة، لنقتحم الحياة العريضة، ولنأخذ من مظاهرها بأوفى نصيب.
كان يريد أن يتمتع بحياته الاجتماعية على أكمل وجه، وأن يقدس مظاهرها الكاذبة التي يكبرها الناس جميعا، واشتدت إليها حاجته ليخفي بها ما في حياته من شذوذ؛ ولذلك فكر جديا أن يذهب وعروسه إلى آل حمديس ليبرئ جرحا قديما، وليشبع شهوته إلى الظهور، ولكن ألا توجد ثمة عقبة حقيقية؟
32
ولم ينثن عن رغبته الجريئة، وأراد أن يجعل منها أولى خطاه في غزو المجتمع الراقي. ورأى عن حكمة أن يمهد للزيارة بمحادثة حمديس بك بالتليفون، وسيعلم من إجابته إن كانت حكاية الهرم قد بلغته أم إن الفتاة الأريبة أخفتها عنهم. وحادثه، ووجد منه خطابا رقيقا، فأخبره بزواجه، وكاشفه برغبته في تقديم زوجه إليه، فرحب بها البك أيما ترحيب. وهرع محجوب إلى زوجه، وقال لها بسرور وخيلاء: دعيني أقدمك إلى أقربائي العظام ...
وعند عصر اليوم العاشر من حياته في البيت الجديد أخذا أهبتهما للزيارة الخطيرة، فارتدت إحسان ثوبا جميلا من ثيابها الجديدة، وتجلت صورتها الفاتنة، وتهيأ سحرها باجتماع الشعر الأسود الفاحم، والبشرة العاجية الصافية، والشفتين الورديتين، وبدا الشاب في منظر حسن قد أخذ يستعيد عافيته ورونقه، واستقلا تاكسي إلى الزمالك. لم تكن إحسان تخلو من قلق ووحشة، أما محجوب فكان يبتسم ابتسامة هادئة مطمئنة كأنه ذاهب إلى بيته الذي شب وترعرع فيه. وقد عبرا الحديقة إلى سلاملك الاستقبال وهما على تلك الحال، فما راعهما إلا منظر الأسرة الكريمة في انتظارهما عند مدخل السلاملك. وقفوا الأربعة صفا؛ أحمد بك حمديس، حرمه، تحية، فاضل. وسر محجوب لنجاح الاستقبال، وقد اطمأن إلى نجاحه من قبل لما هو معهود في النساء كافة من الميل إلى تفحص بنات جنسهن ونقدهن، وتبادلوا التحية والسلام، ولم يخف عن عينيه الجاحظتين الأثر الذي أحدثته زوجه في المستقبلين، فأحس ارتياحا وغبطة. وجلسوا، وما زالوا يتبادلون ألفاظ الترحيب والمجاملة، وجعلت عيناه القلقتان تدوران في جميع الأنحاء، وتتفرس في الوجوه، ووجد نفسه وهو لا يدري يقارن بين زوجه الحسناء وتحية حمديس. إن لتحية جمالها ، ولها إلى جمالها سمت أناقة ورفعة، ولكن هيهات أن تبلغ مدى هذا الحسن الرائع. إن زوجه أجمل من تحية، بل أجمل من أم تحية في صباها، وأعينهم لا تنكر هذا ولا تماري فيه. وطرب لذلك أيما طرب، وقال لنفسه بشماتة: «لقد هزمت في المقبرة يوم الرحلة، وتم لي الانتقام اليوم.» وأراد أن يعرفهم بزوجه كما ينبغي، فقال بجسارته المعهودة وهو يشير إلى فتاته: إحسان كريمة شحاتة بك تركي من كبار تجار الدخان، ألا تعرفه يا سعادة البك؟
صفحة غير معروفة