26
التقت عيناهما - محجوب وإحسان - في صمت وذهول، وذكر كلاهما صاحبه فتولته الدهشة والانزعاج واضطراب أيما اضطراب. ذكرها محجوب فكاد يفقد رشاده ، وذكرته إحسان فتولاها الذهول، وذكرت علي طه، ودار الطلبة، والماضي الذي تود أن تفر منه فرارا. ونظر محجوب فيما حوله فرأى عم شحاتة تركي في معطف جديد، وسيدة بدينة أدرك أنها زوجه، وفطن الإخشيدي إلى ارتباك الجماعة، فقال مبتسما: لعلكم لا تحتاجون إلى تعارف ...
فقال عم شحاتة: محجوب أفندي جارنا منذ أربع سنوات ...
ولم يكن الإخشيدي يجهل هذا - وهو ما جعله يحرص على ألا يعرف أحد الطرفين بالآخر قبل مفاجأة اللقاء - قال: مصادفة جميلة، والناس تقول: «اللي تعرفه أحسن من اللي ما تعرفوش.» سلم واجلس يا أستاذ محجوب.
وأفاق الشاب من ذهوله، فاقترب من آله الجدد وسلم عليهم واحدا واحدا، ومدت له إحسان يدها خافضة العينين، بوجه كالجمان. كانت تريد أن تسدل على الماضي ستارا كثيفا، وأن تفر منه إلى الأبد، فرمى بها الحظ بين يدي واحد من صميم ذاك الماضي، وكأنه - الحظ - لم يشبع بها تنكيلا! وأراد الإخشيدي أن يعالج توتر الجو بالحديث، ولكن محجوب لم يلق إليه بالا. وكيف له بأن يغفل ثانية عن العجيبة الماثلة أمامه؟! هذه إحسان شحاتة بلحمها ودمها! أهذا سر مأساة علي طه؟! يا عجبا، كيف غوت؟! كيف استولى البك عليها؟! كانت ثقة علي بها عمياء! ... أهكذا تقع إحسان؟ ... أما هو فلا يعرف الثقة العمياء أبدا، ومع ذلك فلم يذهب به سوء الظن يوما إلى التنبؤ بما وقع! ... انتهت إحسان التي أحبها علي طه، وانتهى ذاك الحب القديم، وها هي إحسان أخرى جديدة تمد إليه يدا ليرتبطا بميثاق الزواج ... إحسان التي طالما تمناها معذبا محسورا! أفليست الحقيقة أغرب من الخيال؟ وتنبه إلى صوت الإخشيدي يقول له معاتبا: أما تستفيق؟
فنظر إليه بعينين ذاهلتين وتمتم قائلا: إني أعجب لهذه المصادفة.
فسأله الإخشيدي مبتسما: كيف ترى هذه المصادفة؟
فقال محجوب بلا تردد: مصادفة سعيدة بلا جدال!
وجعل الإخشيدي يتكلم عن المصادفة متفلسفا، وقالت أم إحسان كلمة أو كلمتين، وظن عم شحاتة أنه أحاط بالموضوع حين قال: إن المصادفة من صنع الله وبأمره سبحانه، ولكن بالرغم من هذا كله ظل العروسان غارقين في أفكارهما، وغلب الوجوم والارتباك على جو الجلسة، ثم رن الجرس، فنهض الإخشيدي ظافرا بالخلاص من التوتر الشائع حوله، ومضى إلى الخارج وهو يقول: لعله المأذون يا سادة ...
وخفقت القلوب جميعا، ثم دخل الحجرة شيخ يتبعه الإخشيدي، وسلم على الحاضرين، ثم دعا الله أن يجعل محضره مباركا، وجلس الشيخ إلى نضد، شمر عن ساعديه، وأخذ في عمله البسيط الخطير، وجرت يده المغطاة بالشعر الغزير على القرطاس، وتابعه عم شحاتة والإخشيدي، أما محجوب فقطب قليلا وأحد بصره ليركز انتباهه ويطرد أفكاره، وخفضت إحسان عينيها الساجيتين وقد امتقع لونها. وجاءت الدقيقة الفاصلة، فالتفت المأذون إلى محجوب عبد الدائم وقال له: «كرر ما أقوله: الآن قبلت زواج الست إحسان كريمة السيد شحاتة تركي، البكر البالغ الرشيد ... إلخ.» وكرر محجوب قوله بنبرات هادئة، وصوت واضح، لم يعتوره اضطراب، حتى نطقه كلمة «البكر»، بيد أنها وقعت من مسمعه موقعا غريبا أثار سخريته الكامنة، وحقده الراسخ. وذكر إجابة الإخشيدي حين سأله عن العروس: عذراء؟! فأجاب الفاجر باستهانة: كانت؟! ... أجل كانت، فلماذا لا يكتب المأذون: التي كانت البكر؟! تزوير في أوراق رسمية! ... زواجه تزوير، حياته تزوير، الدنيا كلها تزوير ...
صفحة غير معروفة