أهي الحياة المثيرة؟
لكنه لم يكن يرغب أبدا في أي إثارة. لا توجد إثارة أعظم مما يمنحه يوم صيد أو التعادل في لعبة الجولف عند الحفرة السادسة عشرة.
فماذا إذن؟
ما سبب خاطرة «هذا كل ما ستحصل عليه في حياتك»؟
ربما، ظن، وهو جالس يحدق في الطبق الأزرق حيث وضع البسكويت، بأن المسألة تحديدا هي ميول منذ الطفولة بأن «ثمة شيء مبهر سيحدث غدا» تظل لاشعوريا داخل المرء ما دامت هي قابلة للتحقيق، وفقط بعد سن الأربعين، عندما يصبح من غير المحتمل إشباع هذه الميول، تقحم نفسها في العقل الواعي؛ كقطعة مفقودة من الطفولة تصرخ لتلفت الانتباه إليها.
بلا شك هو، روبرت بلير، يأمل من أعماق قلبه أن تستمر حياته على ما هي عليه إلى أن يفارق الحياة. كان قد علم منذ أيام المدرسة أنه سينتقل إلى العمل في مكتب المحاماة وسيرث والده في يوم من الأيام؛ كما نظر بشفقة حانية إلى الشباب الذين لم يكن لديهم وظيفة في الحياة جاهزة من أجلهم، ولم يكن لديهم في انتظارهم قرية ميلفورد، العامرة بالأصدقاء والذكريات، ولا دور في استمرار التقاليد الإنجليزية مثلما أسهم مكتب بلير وهيوارد وبينيت.
غاب أي وجود لعائلة هيوارد عن المكتب في أيامنا هذه، لم يكن هناك أي وجود لأحدهم منذ عام 1843، لكن فتى يافعا من عائلة بينيت كان يشغل الغرفة الخلفية في هذه اللحظة. وكلمة يشغل هي التوصيف الدقيق؛ إذ كان مستبعدا أنه يؤدي أي عمل؛ كان اهتمام نيفيل الرئيسي في الحياة هو كتابة قصائد على مستوى من الأصالة والإبداع ليس بوسع أحد أن يفهمها غيره. استنكر روبرت القصائد لكنه تغاضى عن الخمول؛ إذ عجز عن نسيان أنه حين شغل الغرفة نفسها كان يقضي وقته في ممارسة التسديد بعصا الجولف في المقعد الجلدي ذي الذراعين.
انزلق ضوء الشمس بعيدا عن حافة الصينية وقرر روبرت أنه حان موعد الانصراف. إذا انصرف الآن فبإمكانه أن يسير إلى المنزل عبر هاي ستريت قبل أن يحيد ضوء الشمس عن رصيف الجانب الشرقي؛ فإن السير عبر هاي ستريت في ميلفورد لا يزال أحد الأشياء التي تمنحه متعة حقيقية. ليس لأن ميلفورد كانت واحدة من الأماكن الجميلة. فلربما تضاعف هذا الجمال حتى مائة مرة في أي مكان في جنوب نهر ترينت. إنما السر في أناقتها الطبيعية التي صورت جمال الحياة في إنجلترا في آخر ثلاثمائة عام. بداية من المنزل العتيق المحاذي مع الرصيف الذي يضم مكتب بلير وهيوارد وبينيت، الذي أنشئ في السنوات الأخيرة من عهد تشارلز الثاني، ينساب هاي ستريت جنوبا بميل بسيط - الطوب الجورجي، والخشب والجص الإليزابيثي، والحجر الفيكتوري، والزخارف الجصية على طراز عهد الوصاية على العرش - متجها إلى القصور الإدواردية المتوارية خلف أشجار الدردار عند طرفه الآخر. هنا وهناك، بين الألوان الوردية والبيضاء والبنية، تظهر واجهة من الزجاج الأسود، بارزة بحدة مثل رجل حديث العهد بالثراء في حفل يرتدي ثيابا مبالغا فيها، لكن الطرز الأنيقة للمباني الأخرى حدت من قبحها. حتى الأعمال التجارية المتعددة كانت قد تعاملت برفق مع ميلفورد. صحيح أن البازار الأمريكي ذا اللونين القرمزي والذهبي قد وقف مختالا بوعده البراق بعيدا عند جهة الجنوب، ووجه إهانات يوميا إلى الآنسة ترولاف التي تدير مقهى على الطراز الإليزابيثي في الجهة المقابلة بدعم من مخبوزات أختها وسمعة آن بولين. لكن مصرف ويستمنستر، بتواضع غير معهود منذ أيام الاقتراض بفوائد باهظة ، قد واءم مبنى ويفرز هول بما يتماشى مع احتياجاته من دون حتى ولو لمسة من الرخام؛ وآل سول، متعهدو بيع الأدوية بالجملة، قد استحوذوا على مبنى ويزدم العتيق واحتفظوا بواجهته الطويلة المذهلة كما هي.
كان شارعا صغيرا أنيقا، مبهجا، وحيويا، تميزه أشجار الليمون المقلمة التي تنمو من الرصيف؛ وقد أحبه روبرت بلير.
كان قد ضم قدميه أسفل منه تأهبا للقيام، عندما رن هاتفه. في بقاع أخرى من العالم، يفهم المرء أن الهواتف صممت حتى ترن في المكاتب الخارجية، حيث يرد أحد المرءوسين على هذا الشيء ويستفسر عن طلبك ثم يخبرك أن تتكرم بالانتظار لحظات وسوف يجري «تحويلك» ثم تصبح على اتصال بالشخص المراد التحدث إليه. لكن هذا ليس في ميلفورد. لا شيء من هذا القبيل قد يسمح به في ميلفورد. ففي ميلفورد إذا اتصلت هاتفيا بجون سميث فأنت تتوقع أن يرد عليك جون سميث شخصيا. لذا عندما رن الهاتف في مساء أحد أيام فصل الربيع داخل مكتب بلير وهيوارد وبينيت، فإنه رن على مكتب روبرت ذي الخشب الماهوجني المطعم بالنحاس الأصفر.
صفحة غير معروفة