يدين لها قس ويرقى بوصفها
ويكتبه يشفى به في التمائم
وإن ما نقرؤه في تاريخ شواطئ البحر الأبيض حيث ينزل العرب من مراكش بالجزائر، فتونس، فطرابلس، فبرقة، فمصر، فسورية من وقائع حدثت في أزمان مختلفة بين العرب، وبين البنادقة، والجنويزبين، والبيزين، والإسبانيين، والبرتغاليين لا تطعن في حسن الصلات بين العرب وجيرانهم على الشاطئ المحاذي لهم من هذا البحر؛ لأن هذه الغزوات البحرية كانت بصنع قراصين ومتشردين وغاغة ظالمين، لا دخل فيها للأمم ولخاصتها على الأقل، ولا سلطة فيها للأديان؛ لأن الأديان كلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، ومن أعظم المنكرات فيها قتل النفس التي حرم الله؛ ولذلك تجد المعاهدات تعقد الحين بعد الآخر بين صاحب تونس، أو مصر، أو الشام، أو الغرب الأقصى، وبين الملوك النازلين من الإفرنج في جنوبي أوروبا، وهذه الغزوات البحرية أشبه بالغزوات البرية التي طالما حدثت لها أمثال بين الأمة الواحدة من الإفرنج أو الأمة الواحدة من العرب.
ولطالما غزا سكان جنوبي فرنسا سكان شمالها ودينهم واحد، ولسانهم واحد، وعاداتهم وتقاليدهم متقاربة، ولم يتيسر نزع هذا الخلق، وهو من أخلاق البداوة في الغالب إلا بما قام في فرنسا من الأعمال المالية التي ربطت ابن الشمال بابن الجنوب برباط معنوي مادي، فارتفعت الخصومات من بينهما؛ لأن المصلحة المادية مفضلة على كل شيء، فقد قال الجاحظ: «وليس يكون أن تصفو الدنيا وتنقى من الفساد والمكروه، حتى يموت جميع الخلاف وتستوي لأهلها، وتتمهد لسكانها على ما يشتهون ويهوون؛ لأن ذلك من صفة دار الجزاء وليس كذلك صفة دار العمل.»
قال الكونت هنري دي كاستر في كتابه الإسلام خواطر وسوانح: ولقد زادت محاسنة المسلمين للمسيحيين في بلاد الأندلس، حتى صاروا في حالة أهنأ من التي كانوا عليها أيام خضوعهم لحكم قدماء الجرمانيين الذين يقال لهم الفيزيغوت، ويقول دوزي: إن هذا الفتح لم يكن مضرا بالأندلس، وما حصل من الاضطراب والهرج بعده لم يلبث أن زال باستقرار الحكومة المطلقة الإسلامية في تلك البلاد، وقد أبقى المسلمون سكانها على دينهم وشرعهم وقضائهم، وقلدوهم بعض الوظائف حتى كان منهم موظفون في خدمة الخلفاء، وكثير منهم تولى قيادة الجيوش مثل «سيد»، وتولد عن هذه السيادة الرحيمة أن انحاز عقلاء الأمة الأندلسية إلى المسلمين، وحصل بينهم زواج كثير، وكم من أندلسي بقي على دينه، ولكنه أعجبته طلاوة التمدن العربي فتعلم اللغة وآدابها، وأصبح القسس يلومونهم على ترك ألحان الكنيسة، والتعلق بأشعار الفاتحين. وكانت حرية الأديان بالغة منتهاها؛ لذلك لما اضطهدت أوروبا الموسويين لجئوا إلى خلفاء الأندلس في قرطبة، ولما دخل الملك كارلوس إلى سرقسطة أمر جنوده بهدم جميع معابد اليهود ومساجد المسلمين، قال: ونحن نعلم أن المسيحيين أيام الحروب الصليبية ما دخلوا بلادا إلا وأعملوا السيف في يهودها ومسلميها، وذلك يؤيد أن اليهود إنما وجدوا مجيرا وملجأ في الإسلام، فإن كانت لهم باقية حتى الآن، فالفضل فيها راجع لمحاسنة المسلمين ولين جانبهم. ا.ه .
وقال سيديليو في كتابه حضارة العرب: مما يدل على شأن الأمة العربية أنها فتحت بلادا أجنبية، ولم يتغلب عليها غريب، مع اتصافها منذ أربعة آلاف سنة بما انفردت به من جميل الأخلاق والعادات، فكانت منذ نشأة أقدم الدول مدبرة لأمورها، متأهبة للإغارة على مجاوريها؛ أخذت مملكتي مصر وبابل قبل الميلاد بتسعة عشر قرنا، ثم أخذ منها ما ملكته من البلاد الأجنبية، وانحصرت سطوتها في بلادها العربية، فأخذت تقاتل الفراعنة وملوك العراق، ونجت من تسلط قورش ملك الفرس وإسكندر المقدوني، وبقيت على استقلالها زمن أخذ الرومان الدنيا القديمة، ثم أتى النبي فربط علائق المودة بين قبائل جزيرة العرب، ووجه أفكارهم إلى مقصد واحد فعلا شأنها، حتى امتدت سلطتها من نهر التاج في إسبانيا والبرتغال إلى نهر القانج في الهند، وانتشر نور المعارف والتمدن في المشرق والمغرب، وأهل أوروبا إذ ذاك في ظلمة جهل القرون المتوسطة، وكأنهم نسوا نسيانا كليا ما وصل إليهم من أحاديث اليونان والرومان. واجتهد العباسية ببغداد، والأموية بقرطبة، والفاطمية في القاهرة، بترقية الفنون، ثم تمزقت ممالكهم، وفقدوا شوكتهم السياسية، واقتصروا على السلطة الدينية التي استمرت لهم في جميع أرجاء ممالكهم، وكان لديهم من المعلومات والصنائع والاكتشافات ما استفاده منهم نصارى إسبانيا حين طردوهم منها، كما أن الأتراك والمغول بعد تغلبهم على ممالك آسيا استفادوا معارف من تغلبوا عليهم. ا.ه.
وبعد، فإن أمة هذا ماضيها وهذا حاضرها كيف يجهل بعضهم أو يتجاهلون أمرها؟! وهي التي كانت الصلة والعائد بين المدنية القديمة والمدنية الحديثة، ولولا العرب لتأخرت نشأة الحضارة الغربية قرونا، كما أكد بعض المنصفين من علماء الغرب. فإذا كان ماضينا ما رأيت، وفي حالتنا الحاضرة بعض النواقص جاء لنا من الحكم الاستبدادي الذي نخر العظم قرونا طويلة، فإننا لا يصح إلا أن يقال عنا اليوم كما وصفنا رئيس الكلية الأميركية الدكتور هوردبلس في مؤتمر الصلح: أمة كسائر الأمم فينا من العيوب ما في غيرنا، أما استعدادنا للرقي إذا رفعت عن عيوننا العصائب، فقد أثبته رجالنا الذين تعلموا وتهذبوا ، فكانوا في مصر والسودان وفي أميركا وأوروبا على مستوى الغربي الراقي في علمهم وآدابهم ومتاجرهم وصناعاتهم، وأثبته دعاة الثورة العربية وما ظهر من تفانيهم في وطنيتهم لإرجاع مجد أمتهم بعد ذبوله.
وإليك مع هذا ما ذكره غستاف لوبون - صاحب كتاب مدينة العرب - في كتابه علم النفس السياسية
5
في باب الأسباب النفسية: ألق بالمدينة الأوروبية عن تحويل الشعوب المنحطة عن حالتهم قال: «لا تعمل التربية إلا أن تلخص المدنية، والأوضاع والمعتقدات تمثل حاجيات هذه المدنية، وإذا لم يكن بين المدنية وأفكار شعب وعواطفه اتصال، فإن التربية التي تؤلف هذه المدنية لا يكون لها تأثير فيه، وكذلك الحال في الأوضاع المناسبة لبعض الحاجات فإنها لا تطابق الحاجات المختلفة، ويدرك المرء بأدنى نظر الفرق بين عقول أمم الشرق، ولا سيما المسلمون والهنود الصينيون، وبين عقول أهل الغرب، فيجده عظيما بحيث يتعذر تطبيق أوضاع بعضهم على الآخر، فإن الأفكار والمناحي والمعتقدات وطرق العيش تختلف بين الفريقين اختلافا ظاهرا.
صفحة غير معروفة