عقلية قديمة هي عقلية اللبناني، إنه يفكر بأسرته ثم بضيعته وعقاراته، ثم بمنطقته وملته، وقد بقينا قرونا نكتب في أوراقنا الرسمية: ماروني من عين كفاع، بلاد جبيل، قضاء كسروان. وفي هذه الأيام ما زلنا نلمح تلك الآثار العتيقة فنقول مثلا: بيروتي وجبلي. وراهبنا القديم كان ينتسب إلى ضيعته، ثم إلى رهبانيته، فيقال مثلا: القس مرقص الكفاعي.
يقولون: انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية، ولا يد لشعب لبنان في انتخابه، الأمر موكول إلى بضع عشرات من النواب، وهم الذين ينتخبون الرئيس في جو من المساومات والتطبيقات. عندي أنه ما دام الحاكم اسمه رئيس جمهورية، فليتقدم الشعب كله إلى انتخابه. إن بلدا تنتخب فيه المرأة، المختار وعضو البلدية والنائب لا يجوز أن ينتخب فيه رئيس البلاد الأعلى أربعة وأربعون شخصا. إن لبنان ليس حديث عهد بالانتخابات وقد مر بها في جميع أطواره.
كانت المناصب تنتخب الأمير حتى سنة الستين، ثم صارت القرية تنتخب شيخ الصلح، وشيخ الصلح كان ينتخب عضو الإدارة، ممثل الشعب. ثم أضيف إلى شيوخ الصلح مندوبون ينتخبهم الشعب لينتخبوا النواب. وبعدئذ، منذ عهد غير بعيد، أمسى الانتخاب على درجة واحدة، أي جمهوريا، ثم انتهى الأمر إلى ما نحن عليه الآن، فصارت المرأة تنتخب، وما حرم من حق الانتخاب إلا مطارين الموارنة بعد أن مارسوه خمسة عشر قرنا وأكثر. فآخر امرأة لبنانية، حتى المعتوهة، يحق لها أن تنتخب، وأحبار هذه الطائفة مكفوفو الألسنة والأيدي، يحنون رقابهم للنير، ولم يقل أحد منهم، كما قال داود: فلنلق عنا نيرهم.
فهذه مصر انتخبت رئيسها، وهذه سوريا كذلك، أما نحن فنرجع إلى الوراء، ينتخب عنا نواب نعرف كيف صاروا، ولمن خضعوا حتى سادوا ...
ومع هذه الحالة السوداء نسمي لبناننا، بلد الإشعاع، ونقول: نحن، ونحن، «وما في الكون غير نحنا»، نحن أبدعنا الحرف، ونحن وزعنا المدنية جرايات على العالمين ... وجدنا قدموس، قتل التنين، وزرع أنيابه، ففرخت علما ومعرفة وحضارة ... نحن بلد الكلمة، نؤمن بقوتها، فهي فاعلة ومنفعلة، ولا ينقصنا إلا أن نقول: إنها تجسدت وحلت فينا!
رويدا رويدا يا أصحابي، إنكم ترجعون إلى الوراء. فأنتم أول من وزع الأرزاق في الشرق، حين ثرتم على الإقطاعية، منذ قرن، والآن تعود الإقطاعية إليكم من باب آخر. يأتون من المغرب والمشرق، ويتكئون في مجالسكم، وأنتم تطردون خارجا، ومع ذلك تغنون صباح مساء: كلنا للوطن. ووطنكم مسكين لا يشعر أحد بوجوده ... ولو كان لهذا الشعب وطن لسأل عنه وغار عليه، ولم يدعه للمغيرين نهبا مقسما.
إننا أشبه حالة بما أشار به معاوية على ابنه يزيد كي يستتب له أمر الخلافة. قال له: خذ أهل الشام بطانتك، وأكرم أهل الحجاز، وإذا سألك أهل العراق عزل وال، كل يوم، فاعزله لهم.
ونحن نقول للحكام عندنا: اعتنوا بموسم التفاح ولو بالحكي، وانعشوا الاصطياف، وعدوا الأمة بمشاريع إنشائية، تنفذ بعد نصف قرن ... أو كقانون من أين لك هذا؟ النافذ إلى الأبد، يجدد انتخابكم جميعا، ولا حاجة إلى دم جديد، ووجوه جديدة، وإن كنا نحبها كما قال معاوية لابنه.
والآن ما زال قدامنا سنتان، وما دمنا قادمين على نواب أكثر عددا، وإني لأرجو أن يكون واحدهم بمليون لا ألف، فلنعدل الدستور، ونفتح باب الرئاسة على طول العمر، فيحق، لكل من يشاء، أن يرشح نفسه، ولكن على شرط أن يكون الانتخاب الرئاسي على درجة واحدة، أي أن ينتخب كل لبناني ولبنانية، الرئيس الأعلى.
طيارة بلا مطار
صفحة غير معروفة